عربي
Thursday 12th of December 2024
0
نفر 0

النفس ومراحلها السبعة

ان جميع المصائب التي عانى منها البشر في حياتهم كان سببها ومنشأها هو هوى النفس، فلا نستطيع ان نتوقّع الخير وفعله من صاحب النفس الشريرة وإذا ما صدر خير منه فإنه يحبط.
النفس ومراحلها السبعة

تعتبر مسألة النفس في البحوث العرفانية من المباحث المحورية، لأن العرفان في جميع المسائل التي يطرحها يركز حول تزكية وتصفية النفس. 

والذي لا يستطيع  ان يروض نفسه الامارة بالسوء ولم يقيّد غرائزه وشهواته بالضوابط الإلهية، ولم يتجاوز نفسه، ولم يتوجه بقلبه إلى القبلة الحقيقية، لا يستطيع ان يكون عارفاً، فتهذيب وتزكية النفس من الأهداف الأساسية والرئيسية لأنبياء الله(ص). 

ان جميع المصائب التي عانى منها البشر في حياتهم كان سببها ومنشأها هو هوى النفس، فلا نستطيع ان نتوقّع الخير وفعله من صاحب النفس الشريرة وإذا ما صدر خير منه فإنه يحبط. 

ان النفس المهذبة والزكية تتحلى في الآخرة بأربع خصال عظيمة وابدية. 

1 ـ علم بلا جهل. 

2 ـ ثروة وغنى بلا فقر. 

3 ـ عزة بلا ذل. 

4 ـ حياة بلا موت. 

فتزيين النفس بهذه الخصال الاربع الاخروية مستقی من مادة الفلاح التي ذكرها القرآن الكريم من اجل تزكية النفس، كما ذكرها الراغب الأصفهاني في(المفردات):

{وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها*فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها}[1]. 

ان من أهم الوظائف التي يجب أن نقول أنها من أولى مهمات الانسان  ووظائفه هي مخالفة  طلبات النفس الغير مشروعة لها، والتي عُبر عنها في الآثار الإسلامية بالجهاد الاكبر. 

فعشاق الله ومريده وسالكو طريق العشق، كانوا في رهبة حتى آخر لحظة من حياتهم من شر هذه النفس؛ لدرجة ان رسول الله(ص) كان يقول في دعائه:

«نَعُوذُ بِاللّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا»[2]. 

فحقاً؛ هل نستطيع ان ندعي محبة الله سبحانه وتعالى في الوقت الذي تكون فيه أنفسنا ملوثة بالرذائل وأسيرة لشتى أنواع المعاصي والذنوب؟! وهل نستطيع ان نطلق على أنفسنا عبّاداً مؤمنين بالله سبحانه وتعالى؟

إنّ العارفين العشاق احصوا لهذه النفس سبع منازل، يجب على من يريد أن يصل إلى المقصود والمنى ان يجتازها ويصل إلى المرحلة الأخيرة وهي:

1 ـ النفس الأمّارة:

في هذه المرحلة وكما أشار القرآن إليها في سورة يوسف الآية (53) بالنفس الحيوانية التي تسيطر على حياة الإنسان بالكامل، فمع وجود هذه النفس الأمّارة بالسوء فإن النفس الناطقة لا تستطيع ان تكشف عن وجهها الملكوتي لنا على الإطلاق، وهذا النوع من الناس لا يصدر منهم شيء سوى الآثار الحيوانية والبهيمية، فجميع اعمال وحركات وسكنات الإنسان في هذه المرحلة انما تدل على طبيعته الحيوانية ونفسه التي تأمره بالشر والسوء. 

 والإنسان الملوّث بالذنوب يبقی متورطاً بالنفس الامارة بالسوء، وتغذيتها بارتكاب المعاصي وهذا يؤدي إلى الخسران الأبدي، فالإنسان في هذه المرتبة السافلة لا يفرق كثيراً عن الحيوان، بل في بعض الأحيان يكون أضل سبيلاً منها. 

فهذه النفس الامّارة  الخطيرة، لديها النفوذ والسيطرة والغلبة ـ في هذه الأيام ـ على أكثر الناس الموجودين على الكرة الأرضية، بل حتى على تلك الأمم المتحضرة الغارقة في الشهوات والماديات. 

فالانسان السالك في هذه المرحلة يكون مشغولاً أكثر في التغلب على القوى الحيوانية والمادية للجسم، ويجب عليه ان يربيها على اساس القواعد الإلهية. 

2 ـ النفس اللوامة:

في هذه المرحلة ـ التي تشير إليها الآية الثانية من سورة القيامة ـ تبدأ القوى العقلية بالنمو والبلوغ شيئا فشيئا ويستقيظ الإنسان من غفلته، فيميز بين الاعمال الحسنة والسيئة، ويظهر فيه شعور داخلي في القلب ينبّهه ويخوّفه من ارتكاب الاعمال السيئة، ولكن هذا الشعور الداخلي مازال ضعيفاً وليس له تأثير كبير، كل ما هنالك هو انه بعد ارتكاب أي عمل سيء، ينتاب الإنسان شعور بالندم. 

ولكنّ أولئك الذين هم في مراقبة لأنفهسم ويعلمون السبب الحقيقي لاضطراب قلوبهم، ينتابهم شعور في ذمّ و لومها للنفس، وهذا النوع من التوبيحُ واللوم لا يصدر عن النفس الحيوانية، بل هو صوت النفس الناطقة أو الروح الملكوتية التي تدعو الإنسان إلى كسب الفضائل. 

فوصية اغلب علماء الدين الاتقياء واولياء الله سبحانه وتعالى والعارفين وأهل المعرفة والبصيرة لنا بالعزلة والاشتغال بالمناجاة والصلاة والصوم، والابتعاد عن الحياة اليومية لساعات، و ذلک  ليستيقظ الإنسان من الغفلة، ويتحرر من وساوس النفس الحيوانية، وينسى الدوافع الخارجية، ويسكت شهواته، ويطفيء نار حرصه، لفترة وجيزة ويتمكن من سماع ذلك النداء السماوي من داخله. 

والعارف في هذه المرحلة يجب ان يشتغل بترويض تلك الأحاسيس والقوى النفسية وجعلها مطيعة له. 

3 ـ النفس الناطقة أو المتفكرة:

في هذه المرحلة فإن قوة التفكير والتمييز في النفس تبدأ بالظهور والنمو بصورة جيدة ويشاهد فيها البلوغ المحسوس، وبالطبع فإن قدرة النفس في هذه المرحلة هي نتيجة وثمرة الاجتهاد الذي بذله الإنسان في تربية وتهذيب نفسه، قال تعالى: 

{وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ}[3]. 

وهذه المراحل الثلاث هي البداية للعارف لكي يتغلب ويتحكم في نفسه ووظيفته المراقبة والارشاد وربما في بعض الأحيان محاربة النفس، في هذه المراحل يجب على الإنسان ان يجعل صدره درعاً للصعوبات والمشاكل والعذاب الذي يتحمله، وأن يصل إلى يقين بأن كل مشقة وألم سوف لن يبقی دون فائدة أو مكافأة. 

ليس المقصود من هذا العذاب والاجتهاد هو قتل النفس، بل ترويضها ووضع قواها في مسارها الجديد الصحيح العلوي، بشكل تكون جميع الرغبات والاحساسات ـ بالإلهام من الوحي ـ خادمة للقلب الطاهر، والإرادة العقلية والنفس الناطقة. 

4- النفس العاقلة أو الملهمة:

في هذه المرحلة تنمو وتنضج قوة التعقل تماماً وتتجلى وتظهر مع قوة الإرادة العقلية، وفي هذه المرحلة يتفرد العقل بالسيادة وتسري بالإرادة العقلية أيضاً أحكام وأوامر العقل في جميع شؤون الحياة. 

{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}[4]. 

وهذه المرحلة انطلاقاً من الآيات السابقة يمكن تسميتها مرحلة النفس الملهمة؛ بلحاظ أن نفس السالك تستضيء لأول مرة بنور الإلهام الرباني. 

هذه المرحلة الرابعة بما أنها برزخ بين المراحل الثلاث الاولى والمراحل الثلاثة اللاحقة، لذا فوفق قانون التكافل والبرزخية لها اشكال وصور وقوى طرفي الاعلى والاسفل. 

و في هذه المرحلة ستستخدم القوى العقلية والحيوانية أقصی درجات قوتها ودفعها لكي تحافظ على موقعيتها ولذا يشهد قلب السالك وهو منشغل بتزكية النفس حرکات عصيان وانقلابات و عواصف قوية جداً، بل ودموية، ولكن في الختام تكون القوى الدنية والسفلية الحيوانية والرغبات الأنانية النفسانية مغلوبة للانوار القاهرة العلوية المعنوية، وتصبح الجهالة والغفلة مغلوبة لنور المعرفة والفضيلة. 

و عندما تظهر هذه الحقيقة في قلب العارف، ستنعم روحه بفيض الراحة الباطنية والاستراحة الوجدانية مما ينشأ عن الانتصار على النفس الحيوانية وستذوق لذة الغلبة على النفس. 

يبتدئ الإنسان السالك في هذه المرحلة من التزكية تدريجياً بتذوق الثمرة الحلوة لأتعابه ومساعيه ومحرومياته ورياضاته ومقاوماتها مما تحمله بصلابه وتوكل وإيمان. 

{وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا}[5]. 

ومن هذا التاريخ يلج عملياً في المراحل الاعلى، فواقع كل تلك الحقائق التي هي في مقام وحالات مختلفة لتزكية النفس والتي سمع عنها، كالمكاشفة والإلهام والانجذاب والذوق والاشتياق؛ وهو الآن يوقن ويشعر بها عملياً، وتقوى يوماً بعد يوم قواه القلبية والايمانية ويقوى أيضاً اعتماده وتوكله على فيوضات وهداية حضرة الرب جلا وعلا. 

5 ـ النفس المطمئنة:

في المرحلة الرابعة، و مع تكامل قوة التعقل والإرادة العقلية، لاتخلو حياة الإنسان شخصية كانت ام اجتماعية لا تخلو أيضاً من الذنوب؛ لأن القوى النفسانية والحيوانية لم تقلع من جذورها بعد، وبعبارة أصح وأدق لم تتبدل إلى قوى روحانية وهي إلى الآن في مرحلة ما قبل النضوج. 

لذلك، فإنه في أغلب الاوقات، نرى أن تلك القوى الحيوانية تبرز برأسها وتظهر حياتها وقوتها، وهذه الحالة قد تتكرر مراراً في حياة السالك، وفي بعض الأوقات قد توقعه وتورطه في الوحشة والحيرة واليأس. 

إنّ بصيري القلب قد مرّوا بهذه التجارب، وأخبرونا عن ظهور هذه الحالات. ففي هذه الحالة من الرجوع والنزوع، لا ينبغي ان نفقد رباطة القلب ونيأس ونضطرب، بل يجب ان نزيد من المراقبة وان نتقبل تلك الحوادث المرّة بكل وجودنا وبنفس عالية، وان نسعى لحلها؛ لانها أحد شروط تزكية النفس والدخول في هذا السلوك. 

والنفس في هذه المرحلة تأخذ صفة النفس المطمئنّة، وتثبت وتصمد بشكل لا يخاف عليها من خطر الزلل و السقوط، وتكون مغلوبة لمكر النفس والهوى ووساوس الشيطان. 

فسماء حياته قد أصبحت خالية من غيوم القوى المضادة، وتراها تتجلى بكل عظمة وجلال كالشمس تسطع باشعتها في قلب السماء الصافية، و تکون مرآة قلب العارف الغيبية قد طهرت كلياً من جميع صدأ هوى النفس، وتصبح مظهراً رائعاً للروح السبحانية. 

وفي هذا المقام تنتهي محاربة النفس وتصبح النفس الحيوانية طيعة مؤتمرة، ويتحرر العارف من أغلال الرغبات والاثارات والاعاصير النفسانية الشديدة وحتى البدن أيضاً يتبع الإرادة الإلهية ولا يستثقل ذلك، بل يصبح قادرا متحملاً. 

6 ـ النفس الراضية:

هذه المرحلة هي مقام العشق والوادي المهيب للرضا والتسليم، ففي هذه المرحلة سيتم امتحان النفس الإنسانية مرة أخرى، وببوتقة المصائب الباطنية والروحية ستحمى بنار الشك والشبهة والتزلزل والخشية والأمل مما كانت قد تغلبت عليه كي تسجل كلياً صفاءها وخلوصها وتثبت ذلك. 

إذن، هذه المرحلة مقام تغذية النفس وميدان التضحية، و على النفس الناطقة، والناطقة الإنسانية ان تثبت كفاءتها للطف ومحبة الروح الملكوتية وتأهلها للعناية والفيض اللاهوتي وأنها جاهزة للتغذية بكل شيء وحتى حياتها أيضاً وبل مشتاقة، فهذا المقام ليس ساحة التعاشقات المجازية بل ينبغي هنا اللعب  التوجه نحو الحقيقة، وحتى التضحية بآلاف الأرواح لأجل اسم وعشق المحبوب وينبغي السعي منتشيا راقصاً نحو عمود المشنقة. 

هنا حيث لا يبقى فرق بين مشيئة الخالق وإرادة عبده ويكون الإنسان واعياً عن معرفة حقيقية عاملاً حقيقياً بارادة الحق بل معيناً على تفصيل خطة الخلقة وتكامل العالم. 

هذه المرحلة هي مقام تغذية النفس والتسليم والرضا المحض من جانب، ومن جانب آخر أيضاً موقع تجلي أنوار الكشف والإلهام والوصال، وفي هذا المقام لم يعد ظل الانفصال وستار الضعف موجوداً، ذلك ان نور عشق المعرفة يستوعب كل حياة العارف الباطنية والظاهرية وهو يرى ولا يعرف شيئا سوى ما في رضا الحق والاستسلام له واوامره وإرادته. 

في مقام الوصل هذا وتحت شعلة العشق الإلهية المحرقة تحترق كل القوى الممانعة واضداد الطبيعة وتمتزج ببعضها وتتحول إلى قوة تبعث على الحياة. 

7 ـ النفس المرضية:

هذه المرتبة أسمى وآخر مقام لكمال النفس الإنسانية، فهذه المرتبة مقام لوصل وتودد النفس الناطقة بالروح الملكوتية. 

ففي المرحلة السادسة كان الرضا والاستحسان من قبل العاشق، بيْد أن العاشق لم يكن مطمئناً تماماً من رضا المعشوق، وإنما كان  يستشعر احياناً آثاراً لرضا المحبوب، ولكن في هذا المقام السابع تحصل النفس الناطقة على الاطمئنان القلبي، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى أيضاً يظهر له رضاه عن النفس الناسوتية ويثبت ويعلن له عشقه سبحانه له. 

في هذا المقام تعلم النفس الناطقة باليقين العيني، بل وبحق اليقين تدرك أن علاقة العشق من الجانبين، أي ان المحبوب أيضاً مشدود إلى حبه بل هو أكثر شغفاً من هذا المجنون الناسوتي، كما ورد في الحديث القدسي ما مضمونه «يا ابن آدم أنا احبك وهذا خفي عليك، فأحبني أنت أيضاً». 

نعم، في هذا المقام يزال الستار عن السر الخفي بأن الخالق هائم بمخلوقه أمام عين العارف. 

نقل عن عارف عاشق انه قال: طلبت الله ثلاثين عاماً، فلمّا نظرت، كان هو يطلبني وأنا المطلوب!!

كل ساعة، بل وكل لحظة، هو بحد ذاته أكبر حظ روحاني وفيض سماوي وسرور أبدي. 

في هذا المقام حيث تسمع النفس الناسوتية نداء «أنت الحبيب وانت المحبوب» بل وتشارك في صفات المحبوب، بل وقد توحدت في هذا المقام ارادة وآمال العاشقين، والعاشق والمعشوق كليهما أي النفس الناطقة والحق تعالى. 

طبعاً لاجل الوصول إلى المرحلة النهائية وهي المرتبة السابعة، ينبغي أن نتزود بأمرين:

أولاً: الإرادة. وثانياً: العمل، وهو العمل بالقواعد التي وصلتنا فقط عن طريق الأنبياء والأئمة(ع). 

في هذه المرحلة والسفر يكون اتباع اوامر غير الله والاخذ بالمسائل العرفانية التي هي من صنع البشر هو عين الضلالة، وليس فقط ان ذلك لا يوصل الإنسان إلى شيء، بل يضيع عمره ويلقيه بوادي التهلكة. 

 


[1]- الشمس 91: 7-9. 
[2]- المبسوط: 4/195. 
[3]- العنكبوت 29: 6. 
[4]- الشمس91: 7ـ 8. 
[5]- العنكبوت 29: 69. 

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الأمل في القرآن الكريم و الروایات
أوصاف العارفين في کلام امام العارفين(ع)
تحقيق حول مصباح الشريعة
اسباب الخوف من الموت
من هو العارف؟
وصايا الإمام الصادق(ع) للمفضل
الأثر السيء للتكبر
العرفان من لسان الإمام علي(ع)
حقيقة باطن العارفين
النبّاش؛ سارق الأكفان

 
user comment