اما اسباب الخوف من الموت فهي:
أولاً: الوحشة من ان الموت ينهي كل شيء و يفضي الی العدم، طبعاً هذه الوحشة تخص الماديين الذين هم عبدة الدنيا، الغارقين في لذات البطن والشهوة، اولئك المتمسكين بهذه الدنيا الفانية بكل وجودهم، ولا يعرفون شيئاً غير ذلك ؛ ولا يحبون سوى ذلك؛ وكل طلباتهم هو لهذا اليوم. هؤلاء في وحشة شديدة من الموت، اذ ان الموت في خيالهم الفاسد، هو سقوط في بئر العدم. ويخيل إليهم ان الموت ختام كل العلائق وسبب انفصام كل الصلات وتبعثر خطوط الانس!!
لكن علاج هذا الخوف ومداواة هذه الخشية ليس امراً صعباً على اولئك، عليهم ان يتفكروا قليلاً في ثقافة الأنبياء وحياة الاولياء(ع)، كي يتضح لهم من مجموع هذه الحقائق انه ومن دون شك أن بعد هذا العالم، هنالك عالم آخر يقال له عالم الآخرة وان خط العدل الذي امتد إلى كل اجزاء الخلقة، يقتضي حتمية وقوع ذلك العالم و وجوده ولولا ذلك لم يكن ليصرّ الله العظيم في القرآن الكريم ومائة وأربعة وعشرون الف نبي صادق القول واثنا عشر اماماً على وجود عالم الآخرة، فعلى هؤلاء ان يتفكروا ان المعاد وامور ما بعد الموت، هي احد أهم اسس الدين وأنه من تجليات العدل الإلهي في ميدان الخلقة.
والاعتقاد بعالم الآخرة من أكثر العوامل المؤثّرة في اصلاح الاخلاق والعمل، ولا يتصور ان المؤمن بعالم الآخرة الذي يستفيد من ايمانه في سبيل تهذيب وتزكية النفس، ان يكون خائفاً من الموت ومستوحشاً من حلوله.
إذن فالخوف من الموت على أنه فصل الختام و نهاية كل شيء، لا سبب له سوى الجهل بالحقائق، وهو خوف مذموم غاية الذم ومستقبح قد رفضته آيات الكتاب والسنة.
ثانياً: الخوف من أن مع الخروج عن هذا العالم يصاب بألم ووجع لا مثيل له في الدنيا، هذا الخوف أيضاً عبثي وفي غير محله؛ اذ لا يصح الخوف اليوم لتوجع غد، بما ان الالم من عوارض الجسم، فسواء خاف الإنسان أو لم يخف فالبدن عرضة للالم والوجع، سواء كان السبب الم المرض أو كان السبب في التوجع من خروج الروح من البدن، إضافة لهذا، على الإنسان ان يتحلى بحقائق الإيمان والعمل الصالح، فافضل ساعاته هي حين خروج روحه عن هذا العالم؛ ودخول العالم الاخر، فهل تبقي لذة مواجهة ألطاف الحبيب وشوق لقاء حضرة المعشوق مجالاً لاستشعار الألم؟
فإلإنسان المؤمن يُخاطَب لدى الموت بخطاب:
{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}[1].
فهل يبقى له مع ذلك ألم وتألم؟
هذا الألم هو عين اللذة والسرور، لا تخف في هذا الخصوص اطلاقاً؛ اذ ان عاشق الحق تعالى لا يفكر بغير الحق، وتحمل ذلك القدر من الالم حين التحليق نحو الحبيب سهل جداً، ولا داعي لخوف المؤمن من هكذا آلام.
لا تئنوا من الالم فرجال درب الحبيب، يعايشون الالم ولا يطلبون الدواء[2].
ثالثاً: الوحشة من ان الموت يكون سبباً لنقصان و بطلان خط الحركة نحو الكمال.
فهكذا خوف ينشأ أيضاً من الجهل بحقيقة الموت والواقع الوجودي للإنسان، الذي تحلى بمعرفة حقيقة الموت ومعرفة واقع الإنسان، فهو يعلم أن الموت متمم الإنسان ومكمل لآثاره الايجابية، لدرجة ان جماعة من عشاق الحبيب قد أخذوا الموت في الحد المنطقي للانسان وقالوا:
«الإنسان حي ناطق مائت»[3]، وحد الشيء هو من علل كماله لا النقص والسفالة، ألم نقرأ في زيارة سيد الاحرار والشهداء:
«أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أَقَمْتَ الصَلاةَ وَآتَيْتَ الزَّكاةَ وَأَمَرْتَ بِالمَعْروفِ وَنَهَيْتَ عَنِ المُنْكَرِ وَأَطَعْتَ الله وَرَسُولَهُ حَتّى أَتاكَ اليَقِينُ»[4].
ألم تسمع نداء عشق امام العارفين من محراب العبادة، حين حلول الموت اذ يقول بكل اشتياق «فزت ورب الكعبة»[5].
ألا تعلم ان علياً الاكبر قال حينما سمع خبر استشهاده من أبيه الرؤوف: «لا نبالي بالموت»[6].
الم يكن الأنبياء والأئمة(ع) مشتاقين جداً للوصول إلى لقاء الله؟ الم تسمع قولهم أن كل من مات قد انتهى ألمه و وصل الی مقصوده؟
فسالك طريق الحبيب لا يرى الموت سبب نقصان، بل يعتبره سبب كمال ويعشق نيله.
فإن حلول الموت للأطهار والطيبين، والصلحاء والعشاق هو كالخروج من دار الظلمة والانفصال عن الشرور، والدخول إلى عالم النور والاتصال بحصيلة الخيرات والمحاسن.
فوقت الموت يكون الوجود مع الارواح الطيبة ومتصلاً بالعقول القدسية والنفوس الطاهرة.
أي عاقل يتاجر بتلك الحياة الرفيعة مقابل دنيا؛ أيامها معدودة، أي حكيم يستبدل هذه الأيام المعدودة التي ملؤها الالم والاسى ومزاجها الضرر والمشقة؛ المليئة النقصان والعيب، بحياة الخلد والكمال الانساني تلك؟!
أي مآسٍ ينبغي تجرعها في محل الظلام هذا، لأجل المحافظة على نور لطف الحق في كل أمور الحياة، أي آلام يجب تحملها كي لا تجتاح ضربة المخاطر شخصية الإنسان، أي مراقبات تنبغي، كي لا يسقط الإنسان من خط العبودية لله إلى ميدان عبودية الشيطان؟ كل هذه البليات تنتهي بحلول الموت ومع نهاية هذا السير والسلوك مع كل ما كان فيه من صعوبة وعسر، يصل الإنسان إلى الله وفي الحقيقة ينبغي القول: ان الموت نقطة الوصل وانقضاء مدة الفراق.
أجل، يا عزيزي! انهض من نوم الغفلة واخرج عن سكر الطبيعة وبادر إلى تقوية اشتياقك إلى الواقع وما يتضمنه من تأصيل ذاتك، كي تغدو عاشق العالم الحقيقي والمقر الاصلي.
اخرج عن هذا الجلد الحيواني الذي لا قيمة له واغسل النفس التي ملؤها القبح من غبار الكدر المادي، وطهر نفسك الإلهية من قذارات التراب والغرور الدنيوي.
اكسر قفص تراب هذا البدن، وتحرك نحو عالم الرحمة بجناح الهمّة، تحرر من سفالة الجهل، وسافر إلى علو العزة والمعرفة. اخرج عن ضيق السجن الناسوتي واخطو في فضاء القدس اللامتناهي، آه! ماذا حصل لك، فنسيت عهدك وكسرت وعدك مع حضرة الرب، ورضيت بمعاشرة ما لا بقاء ولا دوام له؟!
رافق خضر العلم يا موسى القلب، لعلك ان تطوي من هذه الصحراء المنازل.
في بئر البدن حتى متى، اخرج أنت يا يوسف الروح، لمصر التجرد وسلطان العدل.
يا حبيبي ينبغي الرحيل عن مدينة البدن، اطلب زاداً ما دمت ذا فرصة في المنزل.
ليس زاد هذا الطريق سوى الطاعة والخدمة، اجتهد لاجل الدين والعلم ولا تقعد ابداً غافلا.
اللذات الجسمانية الفانية الحبات التي تقدم لك، القدرة والمال والجاه مصيدة يا أيها الطائر العاقل.
عدا ذكر الله فكل ذكر من الشيطان، عدا عشق الحق كل ربح وامل هو باطل.
بعشق ذاك الذي بلا شريك، أي الهي، ابغ همة انقطع عن كلا العالمين[7].
رابعاً: الخشية بعد موته من ضياع اولاده وعياله وان يبتلوا بورطة ومشقة.
هكذا خوف هو وبلا شك من الوساوس الشيطانية ومن امواج الهوس النفسانية.
حقاً؛ هل اننا مصدر عزة وكمال غيرنا واننا سبب عظمة وشخصية الآخرين؟
هل ان الإنسان علة تامة في ايجاد قدرة وقدوة ومروة ومكنة وعزة وذلة الآخرين؟
منشأ هذا الخوف هو الجهل بالقضاء والقدر الإلهي والجهل بلطف وعناية ورحمة الله على العباد.
ان الله تعالى فيما يتعلق بكل شؤون الكائنات وخاصة الإنسان، إله كريم اقتضى فيضه الاقدس ولطفه المقدس ايصال أي ذرة من ذرات العالم إلى كماله اللائق؛ وان يوصلها إلى الهدف الذي خلقت من اجله، وفي هذا الخصوص فقد غمر كل كائنات العالم وخاصة بني آدم بالقوانين اللازمة سواء في التكوين أو التشريع، وهو تعالى يعين كلاً حسب اتصاله بتلك القوانين للوصول إلى كماله المطلوب، ولا يقدر احد على تغيير وتبديل السنن الإلهية الحتمية.
فكم من الناس تحملوا، لاجل تربية اولادهم اسى كثيراً، لكنهم بسوء اختيارهم لم يستقبلوا السعادة، ما أكثر الاغنياء الذين لأجل راحة اهليهم وعيالهم خلّفوا بعدهم ثروة بلا حدود، بيد ان الثروة تلك تبددت في فترة قصيرة بأيدي الورثة وأدت بالجميع إلى الاستجداء في الطريق؟!
ما أكثر الأبناء الذين حرموا من الاستظلال بلطف الوالدين ولم يخلفوا لهم اقل مال، مع ذلك ومن أجل حسن الاختيار واستعمال العقل والاتصال بالمقررات الإلهية النقية، بلغوا من خلال التربية افضل مدارج الآدمية واكتسبوا بظل سعيهم وجهدهم ثروة تاجروا بها مع الله الرؤوف.
ما أكثر اليتامى الذين لا يقاس برقيهم المادي والمعنوي، اطفال ترعرعوا في حضن محبة آبائهم وامهاتهم و بحوزتهم ثروة كبيرة.
تاريخ البشرية يبيّن حقيقة وهي أن انتقال المال والقدرة إلى الابناء من أجل التأكد من أن أهل الإنسان وعياله سيبقون بعده مرتاحين، هو مجرد عبث والأفضل ان يوكل الإنسان أولاده وعياله إلى رب الأرباب مع توفير الأرضية ويوكل تربيتهم إلى الله، اذ ان الله الرؤوف هو أفضل وكيل و أعظم حافظ. فكم من الثروات تركها الآباء وأدت إلى اسوداد حياة الأبناء، وكم من القدرات انتقلت إلى الجيل اللاحق وتسببت في ذلته!!
حكم من نهج البلاغة
يلزمنا في خاتمة هذا القسم ان نشير إلى جزء من حكم مولى العارفين الإمام علي× التي جاءت في هذا المجال، حتى نعالج هذا الخوف المذموم ويتخلص الإنسان من قيوده.
حكمة 344:
قَالَ(ع) لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: «لَا تَجْعَلَنَّ أَكْثَرَ شُغُلِكَ بِأَهْلِكَ وَوَلَدِكَ فَإِنْ يَكُنْ أَهْلُكَ وَوَلَدُكَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَوْلِيَاءَهُ وَإِنْ يَكُونُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ فَمَا هَمُّكَ وَشُغُلُكَ بِأَعْدَاءِ اللَّهِ؟!».
هذا الجهد والعمل على أي قياس ومعيار؟ أليس مساعدة أعداء الله يؤدي إلى معاقبة الإنسان بأشد العذاب.
حكمة 408:
وَقَالَ لِابْنِهِ الْحَسَنِ(ع): «لَا تُخَلِّفَنَّ وَرَاءَكَ شَيْئاً مِنَ الدُّنْيَا فَإِنَّكَ تَخَلِّفُهُ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ إِمَّا رَجُلٌ عَمِلَ فِيهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَسَعِدَ بِمَا شَقِيتَ بِهِ وَإِمَّا رَجُلٌ عَمِلَ فِيهِ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَشَقِيَ بِمَا جَمَعْتَ لَهُ فَكُنْتَ عَوْناً لَهُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ وَلَيْسَ أَحَدُ هَذَيْنِ حَقِيقاً أَنْ تُؤْثِرَهُ عَلَى نَفْسِكَ».
وما أجمل ان تترك الوارث لله سبحانه وتعالى، ويستثمر الإنسان من ماله الذي كسبه لبناء آخرته.
حكمة 421:
قال(ع): «إِنَّ أَعْظَمَ الْحَسَرَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَسْرَةُ رَجُلٍ كَسَبَ مَالًا فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ فَوَرِثَهُ رَجُلٌ فَأَنْفَقَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فَدَخَلَ بِهِ الْجَنَّةَ وَدَخَلَ الْأَوَّلُ بِهِ النَّارَ».
فمن العجيب حقاً، انه عندما يورث الإنسان مالاً ـ كان قد كُسب بطريقة شرعية ـ من شخص، يكون ذلك الشخص المورّث مسائلاً عنه يوم القيامة. واما عندما يرث الإنسان مالاً حراماً من شخص، ويطهّره وفق المعايير الإلهية، وينفقه في سبيل الله، فيدخل الوارث به الجنة ويدخل الموروث به النار.
لذا فإن الخوف على الاهل والولد بعد الممات يعتبر خوف لا معنى له، و لا يجب ان يُعالج هذا الخوف عن طريق انتقال الارث والقدرة للزوجة والأولاد.
وأساساً على الإنسان ان لا يفتح الباب على نفسه لمثل هذه المخاوف، انما يجب على الإنسان ان يخاف بعد موته من أن يخرج أهله واولاده عن دائرة عبادة الحق ويحرموا من التربية الإلهية.
و على كل، ان هذه المخاوف وغيرها مما يشبهها مذموم على لسان أهل العرفان، ويرجع جذورها إلى جهل الواقعيات والبعد عن الحقائق.
[1]- الفجر89: 27 ـ 30.
[2]- «وحدت».
[3]- جامع السعادات: 1/197.
[4]- بحار الانوار: 98/359، باب 31؛ مفاتيح الجنان: 805؛ مصباح الكفعمي: 501.
[5]- بحار الأنوار: 41/2، باب99، حديث 4؛ اعلام الورى: 86، باب 4.
[6]- بحار الأنوار: 44/367، باب 37؛ اللهوف: 70.
[7]- «الهى قمشه اى».