من المناسب هنا، ان نذكر قول العلامة الخواجة نصير الدين الطوسي حول الفرق بين الخوف والخشية، حتى نعلم لماذا أن عشاق الله ينتابهم الخوف، وتفيض اعينهم من الدمع، كسحب الربيع.
يقول الخواجه:
الخوف والخشية وإن كان لها في اللغة نفس المعنى، لكنهما لدى أهل العرفان كل واحد منهما له معنى مختلف. فالخوف عندهم هو: اضطراب وقلق القلب من العقاب والجزاء جراء ارتكاب الذنب وترك الطاعة. وهو موجود عند أكثر الناس. وله مراتب سامية كثيرة، وقليل منهم يدرك المرتبة السامية لها. أما الخشية؛ فهي حالة في القلب من درك عظمة وهيبة الله، والخوف من الحرمان من لطفه. ولا تحصل هذه الحالة، إلا لمن عرف جلال كبريائه، وذاق طعم قربه سبحانه وتعالى[1].
لذا، فإن البكاء والتضرع، والندبة، والعويل، وخشية عشاق الله، هو لمعرفتهم بعظمة الله، وهذه الخشية والتضرع وتحمّل عبء هذه العبادة الشاقة، إنّما هو ليجبروا فقرهم واحتياجهم، بواسطة التقرب إلى الله سبحانه وتعالى.
يقول المرحوم (ملا احمد النراقي) ـ ذلك العاشق الطاهر ـ في كتابه «طاقديس» في باب البكاء العجيب لنبي الله شعيب(ع):
لقد بكى نبي الله شعيب بجانب الجدار، بكى أياماً مضيئة وليال مظلمة.
وعميت عيناه ولم يستطع الرؤية، وأعطاه الله السلطان عينه.
والذي أنعم عليه بالعينين من بداية حياته، أعطاه مرّة أخرى عينيه عندما عُميت.
وهب له عينيه لكي ينظر بعين العبرة إلى الأشياء، ونراه هل اعتبر من الأشياء أم لا؟
في كل وقت وفي السحر والليل، بكى لدرجة أنه فقد عينيه.
عُميت عينيه الطاهرتين مرةً أخرى، وأعطاه الخالق عينيه مرة أخرى.
وبكى مرة ثالثة بكاء شديداً، في مكان ما وفي المدينة والصحراء والوديان.
وبكى ليل نهار، حتى عميت عيناه.
عُميت عيناه ولم يقلّ بكاءه، ولم تجده ساعة دون بكاء أو مأتم.
في الليالي يبكي كثيراً، وفي النهار يتحسّر و يطلق الآهات.
وبكى لدرجة أن الوحوش، والطيور قد أتت من سماع صوت بكائه.
حتى نودي ذات ليلة، إلى متى تبكي يا شعيب؟
فبكاؤك قد أبكى الخلق، فاحتراق الروح يؤدي إلى احتراق الجسم.
وانت بمثابة الروح والرعية بمنزلة جسدك، وانت المعنى والخلائق أسماؤك.
وکل شخص عندما يبكي فلديه غاية، يا شعيب ما غايتك من بكائك؟
فإن كان بكاؤك خوفاً من نار جهنم، فإنا قد أغلقناها دونک.
وحرّمنا عليك نار جهنم، مثلما حرّمنا الجنة على الكفّار اللئام.
وإن كان بكائك لأجل الجنة، والوصول إلى الحور العين.
فإنّا أعددنا الجنّة وما فيها لك، وزيّنتها الحور العين بأجمل زينة.
الحور العين ينتظرنك ليل نهار، وقلوبهنّ مليئة بالشوق إليك.
فهذه الجنّة وهذه الحور وهذا انت يا شعيب، متى ما شئت هلّم.
فلمّا سمع شعيب هذا النداء من السماء، تأوّه من أعماق قلبه الحزين.
يا إلهي؛ يا راحة كل روح مستهام، مالي وللجنة والنار.
ماهي النار كي أخاف منها، أو أبكي من لظاها.
فأنا الذي وسط النار منذ سنين، وكبرت وشبت في النار.
وأنا الذي قضيت عمري وتلذذت بالنار، فمن يخوّفني من النار؟
فهؤلاء، ينظرون إلى العظمة الإلهية، ويرون كل شيء صغير وحقير ولا شيء، مثلما يصفهم أمير المؤمنين(ع) في خطبة المتقين عندما يقول:
«عَظُمَ الْخالِقُ فى أنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مادونَهُ في أعْيُنِهِمْ».
من اجل هذا، فإنهم لا يؤمّلون النفس بأي شيء، ولا يفرحون من نيل النعم الدنيوية، ولا يحزنون من ذهابها، وكل مصائب الدنيا تهون عليهم إلا فراق المحبوب، ولا يتخاصمون على الدنيا مع أحد، ويغضون ابصارهم عن اموالها، منزّهون من الصفات الرذيلة، لان سببها هو حب الدنيا، ولا يهتمّون لهذه الدنيا، لذلك؛ فإنهم غير ملوّثين بها.
ويعشقون الله فقط، ولا يعرفون كعبة غير قبلته ولا يطيعون أمر أو نهي أحدٍ سواه، ولا يخافون إلا منه، ولا يبحثون عن الذنب أبداً، حتى انهم لا يخطر ذلك على بالهم، أطهر الأعمال والأفكار هو عملهم. وجودهم للناس وللعالم بركة، ولا يُنتظر منهم إلا الخير والبركة. في وقت هم يتحلون بجميع المحاسن والأعمال الحسنة والطيبة، وبعيدين عن الرذائل، فإنهم يحسبون أنفسهم من أفقر الفقراء وأقل العاملين.
ولهذا فإنهم يتفوقون على الناس، في إطاعة أوامر الحق، والبكاء من خشيته، والتوبة امامه من الفقر والقصور في أداء الطاعة.
يقول الإمام علي(ع) في دعاء كميل مع ما هو عليه من العظمة والجلال ـ التي حصل عليها عن طريق العبادة:
«فَكَيْفَ لِي وَأَنا عَبْدُكَ الضَّعِيفُ الذَّلِيلُ الحَقِيرُ المِسْكِينُ المُسْتَكِينُ».[2]
ويقول الإمام زين العابدين(ع) في الصحيفة السجادية:
«وَأَنَا أفْقَرُ الفُقَراءِ إلَيْكَ».[3]
ويقول الإمام الحسين(ع) في دعاء عرفة:
«إِلهي كُلَّمَا أَخرَسَني لُؤْمي أَنْطَقَني كَرَمُكَ».
مع من اتكلم؟ مع نفسي! فالرذائل شوّهت وجهي لدرجة أني لا أريد أن أرى وجهي.
إلهي! مع من أتكلم؟ مع حضرتك! فإني أرى جميع طرق الوصول إليك موصدة بوجهي، وأسكتتني ذنوبي ومعاصيي.
إلهي! مع من أتكلم؟ مع الآخرين! فلا ريب أن النفس سوف تخفي حقيقتها، وسوف تظهر لهم محاسنها، في هذا الوقت، سيكون وجهي أقبح وأوسخ من ذي قبل، لأنها سوف تضيف إلى سيئاتها، أنها تلوّث بدنس الرياء.
إلهي! مع من أتكلم! مع عالم الطبيعة التي هي مطيعة لك دون أي اعتراض؟ ذلك الموجود الذي سلّم نفسه لواضع القوانين؛ الأزلي، وأي شبه فيّ منه أنا الذي حتى لم أحارب ميول نفسي؟!
ياإلهي العزيز والرحيم! فلم يبقى موجود آخر لم يتكلم معه هذا التائه الحيران! فكيف يجد مفرّاً من هو ملوّث بالرذائل والسيئات؟ هنالك أمر واحد، وسفينة نجاة واحدة فقط، هو كرمك الذي لا نهاية له.
وما أحسن أنني لم أكن بحاجة إلى النطق بالألفاظ، حتى لا أكون خجلاً أكثر من مفاهيم تلك الألفاظ[4].
نعم، هذا هو رأي العارفين وسالكي الطريق، و همّ أهل البصيرة والمعرفة بالله سبحانه وتعالى، مع ان آثار العبودية في سيماهم فإنهم لا يحسبون انفسهم شيئاً امام عظمة الخالق. ومن اجل هذه المعرفة والشعور الكثير، فكلما يتقدمون أكثر ويتقربون أكثر إلى مقام القرب منه، يصلوا إلى حقيقة أنهم لا شيء، وينتاب وجودهم خشية أثقل، فأولئك بهذه الطريقة يستمرون على هذا النهج، إلى ان ينتقلوا إلى العالم الآخر، وعندها يأتيهم هذا النداء:
{. . . أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}[5].
{يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً}[6].
فتستحيل خشيتهم إلى أمْن تام، وباتصالهم بمقام حضرة المحبوب، يتخلصون من هذا النقص المحيط بهم من كل جانب.
حقاً، فأولياء الله ما هذا رأيهم في أنفسهم؟ نعم، ان الإنسان أشرف من كثير من المخلوقات، كلما اطلع هذا الإنسان على فقره واحتياجه وانه لا شيء، كلما تجلت عظمة وكبرياء، وجلال وجمال الحبيب في قلبه، وكلما تجلّى جمال المعشوق في قلب العاشق، وكان على معرفة بعظمة المعشوق، ومطلعٌ على ذلة و ضآلة نفسه، فإنه ينتابه خشية أكثر. و بهذا الزخم المعنوي، فإنه يستمر أكثر في المسير، ومن أجل رفع هذه الذلة والحقارة، فإنه يتقرّب أكثر الی حضرة المحبوب ويسعى.
[1]- الكافي: 3/115.
[2]- الاقبال: 708؛ مصباح المتهجد: 847.
[3]- الصحيفة السجادية: 71، الدعاء العاشر.
[4]- «نيايش حسين: 54».
[5]- فصّلت 41: 30.
[6]- الفجر 89: 27-28.