نذكر هنا خلاصة وصايا الإمام جعفر الصادق(ع) التي تبين لطف الله سبحانه وتعالى لعباده، ويوضحها(ع) للمفضل حتى نستيقظ من نوم الغفلة بعد مطالعة هذه السطور، ونزيل تلك الغيوم السوداء التي المحبة تتحجب، ويضيء نور الامل في قلوبنا. وهذا الامل يؤدّي بنا إلى التمسك برحمته، والتحليق نحو مقام القرب الإلهي.
يا مفضل: أول العبر والادلة على الباري جل قدسه تهيئة هذا العالم وتأليف أجزائه ونظمها على ماهي عليه، فإنك إذا تأملت العالم بفكرك وميزته بعقلك وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع ما يحتاج إليه عباده، فالسماء مرفوعة كالسقف، والارض ممدودة كالبساط، والنجوم منضودة كالمصابيح، والجواهر مخزونة كالذخائر، وكل شئ فيها لشأنه معد، والانسان كالملك في ذلك البيت، والمخول جميع ما فيه، وضروب النبات مهيأة لمآربه، وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه، ففي هذا دلالة واضحة على أن العالم مخلوق بتقدير وحكمة، نظام وملائمة، وأن الخالق له واحد هو الذي ألفه ونظمه بعضا إلى بعض، جل قدسه، وتعالى جده، وكرم وجهه، ولا إله غيره، تعالى عما يقول الجاحدون، وجل وعظم عما ينتحله الملحدون.
نبتدئ يا مفضل بذكر خلق الانسان فاعتبر به، فأول ذلك ما يدبر به الجنين في الرحم، هو محجوب في ظلمات ثلاث: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، حيث لا حيلة عنده في طلب غذاء ولا دفع أذى، ولا استجلاب منفعة ولا دفع مضرّة، فإنه يجري إليه من دم الحيض ما يغذوه كما يغذو الماء النبات فلا يزال ذلك غذاؤه حتى إذا كمل خلقه واستحكم بدنه، وقوي أديمه على مباشرة الهواء، وبصره على ملاقاة الضياء هاج الطلق بأمه فأزعجه أشد إزعاج، وأعنفه حتى يولد، إذا ولد صرف ذلك الدم الذي كان يغذوه من دم امه إلى ثدييها فانقلب الطعم واللون إلى ضرب آخر من الغذاء، وهو كأشدّ موافقة للمولود من الدم فيوافيه في وقت حاجته إليه فحين يولد قد تلمظ وحرك شفتيه طلبا للرضاع فهو يجد ثديي امه كالاداوتين المعلقتين لحاجته إليه، فلا يزال يغتذي باللبن مادام رطب البدن، رقيق الامعاء، لين الاعضاء، حتى إذا تحرك واحتاج إلى غذاء فيه صلابة ليشتد ويقوي بدنه طلعت له الطواحن من الأسنان والاضراس، ليمضغ به الطعام فيلين عليه، ويسهل له إساغته فلا يزال كذلك حتى يدرك فإذا أدرك وكان ذكراً طلع الشعر في وجهه فكان ذلك علامة الذكر وعز الرجل الذي يخرج به من حد الصبا وشبه النساء، وإن كانت انثى يبقى وجهها نقيا من الشعر، لتبقى لها البهجة والنضارة التي تحرّك الرجال لما فيه دوام النسل وبقاؤه.
اعتبر يا مفضّل فيما يدبّر به الانسان في هذه الاحوال المختلفة، هل ترى يمكن أن يكون بالاهمال؟ أفرأيت لو لم يجر إليه ذلك الدم وهو في الرحم ألم يكن سيذوي ويجف كما يجف النبات إذا فقد الماء؟ ولو لم يزعجه المخاض عند استحكامه ألم يكن سيبقى في الرحم كالموؤود في الارض؟ ولو لم يوافقه اللبن مع ولادته ألم يكن سيموت جوعاً، أو يغتذي بغذاء لا يلائمه ولا يصلح عليه بدنه؟ ولو لم تطلع عليه الأسنان في وقتها ألم يكن سيمتنع عليه مضغ الطعام وإساغته، أو يقيمه على الرضاع فلا يشد بدنه ولا يصلح لعمل؟ ثم كان تشتغل امه بنفسه عن تربية غيره من الأولاد ولو لم يخرج الشعر في وجهه في وقته ألم يكن سيبقى في هيئة الصبيان والنساء فلاترى له جلالة ولاوقاراً؟
فقال المفضل: فقلت: يا مولاي فقد رأيت من يبقى على حالته ولا ينبت الشعر في وجهه وإن بلغ حال الكبر، فقال: ذلك بما قدمت أيديهم وأن الله ليس بظلام للعبيد[1].
ثم يشير الامام(ع) إلى كثير من النعم المادية والمعنوية التي اعطاها الله للإنسان من أجل أن يعرفه و يشکره و يطيعه سبحانه وتعالى مقابل هذه النعم.
كل هذه النعم التي نراها أمام اعيننا في الليل والنهار، إذا لم تكن احدى هذه النعم فإننا سوف نواجه مشاكل غير قابلة للحل؛ في الوقت الذي انعمها الله سبحانه وتعالى بلطفه وحبه لعباده ودون طلب عباده، أو تضرعهم لله سبحانه وتعالى. وكل هذه الاشياء ألا توجد اليقين في قلب وروح الإنسان إزاء الکرم الالهي وعناية الله لعباده؟!
منذ أن كان هذا الإنسان نطفة في صلب أبيه وإلى الآن فهو غارق في انواع النعم التي لا تحصى ودائماً حيث ما كان ويكون فهو موضع إحسان الله سبحانه وتعالى، وهذا الإحسان قطعي وحسي وهو دليل ومرشد الإنسان إلى الامل. فلذا علينا أن نكون في حالة أمل ورجاء مع وجود رب كريم ورحيم في قبول التوبة والعذر وانه الوحيد الذي يعوض جميع الاحتياجات من باب لطفه وكرمه على عبده، ولا نيأس من روحه و رحمته و بهذا تفيد الآيات الواردة في سورة يوسف الذي ذكرت بأن اليأس من رحمة هو محض الكفر.
وبالطبع يجب ان اذكر هنا ملاحظة مهمة وضرورية ألا وهي ان الإنسان الذي يأمل برحمته سبحانه وتعالى يجب ان يکون قد أطاع ويطيع اوامره، وأن يكون قد زرع لآخرته في دنياه، و ان يتسلّح بسلاح التوبة ليكفر عن ذنوبه المتقدمة، وغير هكذا أمل يعتبر من وجهة نظر القرآن والسنة النبوية، أملاً في غير محله؛ حيث يطمع الإنسان بثواب وعطاء الله بدون عمل.
فالفلّاح الذي يملك ارضاً زراعية و في فصل الخريف لم يشرع بتنظيف الأرض من الحجارة والحصى، ولم يحرثها ولم يقم ببقية الاعمال ولم ينثر البذور في الأرض، فإذا كان هذا الفلاح يأمل ان يحصد محصولاً من ارضه، فهو عين الجهل والحمق، و هكذا الأمل بالله، من وجهة نظر الإسلام لا يسمّى أملاً، إنّما هو أمْن من مكر الله سبحانه وتعالى، حيث يعتبر من الذنوب الكبيرة وسبباً للعذاب في يوم القيامة.
فعندما يعد الإنسان جميع المعدات لمجاهدة العدو الباطني والظاهري ويبرز إلى ميدان الحرب، عندها فليكن لديه أمل بالنصر، وليتيقن ان الله ينصره على أعدائه.
وعندما يؤدي الإنسان جميع واجباته ويجتنب ارتكاب الذنوب، عندئذ عليه أن يأمل بلطف ومحبة الله سبحانه وتعالى، وأن يتوقع الأجر والثواب العظيمين.
إذا لم يكن الأمل بعد العمل أو التوبة، فهو ليس بأمل، وبدون العمل وأداء أوامر الله، والابتعاد عن الحرمات، علينا ان لا نأمل برحمته. كما ان الآيات القرآنية والروايات والاخبار اشارت بصراحة تامة إلى هذه الحقيقة؛ التي سوف نبينها في الفصول القادمة.
نعم، فعندما نشاهد الطاف الله سبحانه وتعالى نتيقن بلطفه وعنايته، واليقين هو أيضاً عامل لبروز الأمل، فعندما كان الإنسان يوماً ما، لايستحق أي لطف ولم يطلب منه جل وعلا، وكان طفلاً ضعيفاً، أو انساناً فقيراً، ولكنّه كان موضع جميع هذه الألطاف الإلهية.
واليوم عندما يشقى في طاعته وعبادته، وعندما يرتكب معصية فإنه يسهر ليله في حالة إنابة وتوبة؛ فكيف لا يأمل بثواب العمل ومغفرة الذنب؟
و يوم کان صغيرا كان الله سبحانه وتعالى لم يكلف عبده بالعمل والتوبة، كانت رحمته تسبغ عليه النعم والاحسان، واليوم عندما يربط الله سبحانه وتعالى العمل والتوبة؛ بالثواب، والجنة والنجاة من عذاب جهنم، كيف لا يجازيه بالثواب، في مقابل اطاعته، وكيف لا يغرقه في رحمته ومغفرته مقابل توبته؟!
لذا فإن الأمل الذي يرافقه العمل صحيح مثلما خاطب الله سبحانه وتعالى موسى:
«ما أَقَلَّ حَياءً مَنْ يَطْمَعُ في جَنَّتي بِغَيْرِ عَمَل. يا مُوسى كَيْفَ أَجْوَدُ بِرَحْمَتي عَلى مَنْ يَبْخَلُ بِطاعَتي»[2].
[1]- بحار الأنوار: 3/62، باب 4، الخبر المشتهر بتوحيد المفضّل، و 57/377، باب 41، حديث 98.
[2]- روح البيان: 2/96.