حيثيّات صلحه :
السؤال : أرجو منكم أن ترسلوا لي ملخّص عن حيثيّات صلح الإمام الحسن (عليه السلام) مع معاوية ، لأنّ أهل السنّة يعتبرون أنّ الصلح قد أعطى الشرعية في الخلافة لمعاوية .
الجواب : للإجابة على سؤالكم لابدّ من الأخذ بعين الاعتبار أربعة أُمور يتوقّف عليها القول بشرعية خلافة معاوية :
1ـ إنّ الإمام الحسن (عليه السلام) بايع معاوية بيعة حقيقية !!
2ـ إنّ الإمام الحسن (عليه السلام) تنازل عن الخلافة لمعاوية !!
3ـ إنّ الإمام الحسن (عليه السلام) بايع مختاراً ، وبدون ظروف قاهرة !!
4ـ إنّ معاوية عمل بشروط البيعة أو الصلح !!
وإثبات كلّ واحدة من هذه المقدّمات دونه خرط القتاد ، وسوف نحاول مناقشتها لبيان عدم إمكانية ثبوتها .
النقطة الأُولى : إنّ المصادر التاريخية التي بمتناول أيدينا تثبت عدم حدوث بيعة من الإمام الحسن (عليه السلام) لمعاوية ، بل لم يكن في الأمر غير المعاهدة والصلح ، وهذا غير البيعة ، كما يشهد له كلّ من عنده بعض الإلمام بالعربية .
وإليك بعض النصوص التاريخية التي ذكرت الهدنة أو المعاهدة ولم تذكر البيعة :
1ـ قال يوسف : " فسمعت القاسم بن محيمة يقول : ما وفى معاوية للحسن
____________
1- مناقب آل أبي طالب 3 / 203 .
|
الصفحة 168 |
|
بن علي (عليهما السلام) بشيء عاهده عليه " (1) .
2ـ في كلام للإمام الحسن (عليه السلام) مع زيد بن وهب الجهنيّ قال : " والله ، لأن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي ، وأومن به في أهلي ، خير من أن يقتلوني فتضيع أهل بيتي وأهلي … والله لإن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير ... " (2) .
3ـ فلمّا استتمت الهدنة على ذلك سار معاوية حتّى نزل بالنخيلة (3) .
4ـ في رواية له (عليه السلام) : " إنّما هادنت حقناً للدماء وصيانتها ... " (4) .
5ـ لمّا وادع الحسن بن علي (عليهما السلام) معاوية ، صعد معاوية المنبر ، وجمع الناس فخطبهم ... (5) .
وممّا يؤيّد ذلك أنّ جميع المصادر التاريخية القديمة حين تذكر أحداث عام (41 هـ ) تقول : " صلح الحسن " ، وليست " بيعة الحسن " .
النقطة الثانية : هناك فرق واضح بين القيادة الدنيوية وحكومة الناس ـ مهما كانت الوسائل والسبل ـ وبين الخلافة الإلهيّة ، فحتّى لو سلّمنا ببيعة الإمام الحسن (عليه السلام) فهي لا تثبت أكثر من القيادة الدنيوية لمعاوية على الناس ، وهذا لا يعني على الإطلاق التنازل عن الخلافة ، والمنصب الإلهيّ ، بل وليس من صلاحية الإمام ذلك .
فتعينه إماماً للناس وخليفة كان من قبل الله تعالى ، فلا يمكن التنازل عنه ، فهو ـ كما يعبّر عنه الفقهاء ـ من الحقوق التي لا يصحّ إسقاطها ، ولا تقلها ، وممّا يدلّ على ذلك الروايات الكثيرة الدالّة على ثبوت الخلافة للإمام الحسن (عليه السلام)
____________
1- علل الشرائع 1 / 212 .
2- الاحتجاج 2 / 10 .
3- الإرشاد 2 / 14 .
4- مناقب آل أبي طالب 3 / 196 .
5- الأمالي للشيخ الطوسيّ : 559 .
|
الصفحة 169 |
|
: " إمامان قاما أو قعدا " (1) ، فكيف يجوز للإمام الحسن (عليه السلام) نزع ثوب ألبسه الله إيّاه ؟
وممّا يؤيد ذلك ، ما جاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) : " لا يلين مفاء على مفيء " أي لا يكون الطليق أميراً على المسلمين أبداً ، ولو تأمّر عليهم لكان غاصباً لحقّ الإمارة ، ظالماً لهم بحكم الشرع والعقل والاعتبار ، فحيث كان معاوية طليقاً لم يكن له أن يتأمّر على المسلمين (2) .
النقطة الثالثة : وهي نقطة مهمّة جدّاً ، لو أمكن إثباتها لشكّلت منعطفاً حادّاً في تحليلنا ، ولأمكن أن يقال ـ بوجه ما ـ شرعية قيادة معاوية وحكومته ، وذلك لأنّ الإنسان يحاسب ويؤاخذ على أعماله الاختيارية ، وليس ما اضطرّ إليه ، فهو منفيّ عنه ، وغير منظور عقلاً ونقلاً .
وبعد هذه المقدّمة نقول : إنّ دراسة الظرف الذي عاشه الإمام الحسن (عليه السلام) يجعلنا نقطع بعدم إمكانية الاحتمال الأوّل ، وهو الاختيارية في حقّه ، فتعيّن الاحتمال الثاني ، ومعه لا مجال للقول بشرعية خلافة معاوية ، لأجل تنازل الإمام (عليه السلام) له ، فهو يؤخذ به لو كان تنازله طواعية ، وليس كرهاً واضطراراً .
ولابدّ لتعيين الاحتمال الثاني من النظر في ثلاثة أُمور :
1ـ حالة قوّاد جيش الإمام (عليه السلام) .
2ـ أهل الكوفة .
3ـ رؤساء القبائل .
الأمر الأوّل : إنّ الإمام (عليه السلام) أرسل في البدء قائداً من كندة في أربعة آلاف مقاتل ، توجّه إلى الأنبار ، فأرسل إليه معاوية بخمسمائة ألف درهم ، فأخذها وتوجّه إليه مع مائتي رجل من خاصّته وأهل بيته .
ثمّ أرسل الإمام (عليه السلام) قائداً من مراد في أربعة آلاف ، فكتب لهم معاوية ،
____________
1- الفصول المختارة : 303 ، الإرشاد 2 / 30 .
2- بحار الأنوار 44 / 4 .
|
الصفحة 170 |
|
وأرسل له خمسمائة ألف درهم ، ومنّاه أيّ ولاية أحبّ من كور الشام ، فتوجّه إليه .
ثمّ أرسل الإمام (عليه السلام) عبيد الله بن عباس قائداً على الجيش ، فضمن له معاوية ألف ألف درهم ، يعجّل له النصف ، ويعطيه النصف الآخر عند دخوله إلى الكوفة ، فانسل في الليل إلى معسكر معاوية .
الأمر الثاني : إنّ أكثر أهل الكوفة قد كتبوا إلى معاوية : " إنّا معك ، وإن شئت أخذنا الحسن وبعثناه إليك " (1) .
الأمر الثالث : كتب جماعة من رؤساء القبائل إلى معاوية بالطاعة له في السرّ ، واستحثّوه على المسير نحوهم ، وضمنوا له تسليم الحسن (عليه السلام) إليه ، عند دنوّهم من عسكره أو الفتك به (2) .
وإذا رأينا الروايات التي يذكر فيها الإمام (عليه السلام) سبب مصالحته مع معاوية ، لوجدنا أنّ الطريقة التي استعملها الإمام كانت هي المتعيّنة لكلّ لبيب ، ولكلّ خبير بالأُمور العسكريّة .
مضافاً إلى ما ذكرناه من النقاط الثلاث نذكر بعض الروايات زيادةً في التوضيح :
1ـ هنالك صنف من الروايات يصرّح الإمام الصادق (عليه السلام) لسدير حول عمل الإمام الحسن (عليه السلام) بقوله : " فإنّه أعلم بما صنع ، لولا ما صنع لكان أمراً عظيماً " .
وبالتأكيد إنّ هذا الأمر العظيم من الخطورة والأهمّية بمكان ، بحيث يفضّل الإمام الصلح عليه ، وتجد هذا المعنى من الروايات في كتاب علل الشرائع (3) .
____________
1- بحار الأنوار 44 / 45 .
2- الإرشاد 2 / 12 .
3- علل الشرائع 1 / 211 .
|
الصفحة 171 |
|
2ـ في الصنف الآخر من الروايات ، يتحدّث (عليه السلام) عن السبب بما حاصله : " ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلاّ قُتل " .
وهذا القسم يعطينا صورة أوضح وأدقّ من الأوّل ، ويمكن أن يكون شرحاً للأمر العظيم ، الذي عبّرت به الروايات في الصنف الأوّل (1) .
3ـ في الصنف الثالث يصرّح (عليه السلام) بالقول : " ويحكم ما تدرون ما عملت ؟ والله الذي عملت خير لشيعتي ممّا طلعت عليه الشمس أو غربت ... " (2) .
4ـ في الصنف الرابع من الروايات يقول (عليه السلام) : " والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتّى يدفعوني إليه سلماً ، والله لإن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير ، أو يمنّ عليّ فيكون سنّة على بني هاشم إلى آخر الدهر ، ولمعاوية لا يزال يمن بها وعقبه على الحيّ منّا والميت " (3) .
وهذا الصنف من الروايات يشير إشارة واضحة إلى ما أثبتناه في بداية النقطة الثالثة من الوضعية الحسّاسة والحرجة في جيش الإمام ، والقلوب المريضة والضعيفة التي كانت تحكم الوضع آنذاك .
5ـ خطب الإمام الحسن (عليه السلام) بعد وفاة أبيه : " وكنتم تتوجّهون معنا ، ودينكم أمام دنياكم ، وقد أصبحتم الآن ودنياكم أمام دينكم ، وكنّا لكم وكنتم لنا ، وقد صرتم اليوم علينا ... " (4) .
6ـ قال الإمام الحسن (عليه السلام) لخارجي عاتبه على صلحه : " فإنّ الذي أحوجني
____________
1- نفس المصدر السابق .
2- كمال الدين : 316 ، إعلام الورى 2 / 230 ، كشف الغمّة 3 / 328 .
3- الاحتجاج 2 / 10 .
4- تاريخ مدينة دمشق 13 / 268 ، أُسد الغابة 2 / 13 ، جواهر المطالب 2 / 207 ، الكامل في التاريخ 3 / 406 .
|
الصفحة 172 |
|
إلى ما فعلت : قتلكم أبي ، وطعنكم إيّاي ، وانتهابكم متاعي ... " (1) .
7 ـ قول الإمام(عليه السلام) لحجر بن عدي: " وإنّما فعلت ما فعلت إبقاء عليكم " (2).
8 ـ قول الإمام (عليه السلام) حينما عذلوه على الصلح : " لا تعذلوني فإنّ فيها مصلحة " (3) .
ولو لاحظنا التشبيه الذي يستعمله الإمام (عليه السلام) في بيان الهدف من صلحه لحصلنا على المزيد من القناعة ، بأنّ صلحه لم يكن إلاّ لمصلحةٍ كبرى يقتضيها الإسلام ، ولا تعني على الإطلاق أهلية معاوية للخلافة :
1ـ في كلام يخاطب به أبا سعيد فيقول له : " علّة مصالحتي لمعاوية علّة مصالحة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لبني ضمرة وبني أشجع ، ولأهل مكّة حين انصرف من الحديبية ، أُولئك كفّار بالتنزيل ، ومعاوية وأصحابه كفّار بالتأويل ... " (4) .
2ـ يشبّه جهلنا بالحكمة الداعية للصلح بقضية الخضر وموسى (عليهما السلام) .
فقال (عليه السلام) : " ألا ترى الخضر (عليه السلام) لمّا خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وأقام الجدار ، سخط موسى (عليه السلام) فعله ، لاشتباه وجه الحكمة عليه ، حتّى أخبره فرضي ، هكذا أنا ... " (5) .
3ـ وقوله (عليه السلام) : " وقد جعل الله هارون في سعة حين استضعفوه ، وكادوا يقتلونه ... كذلك أنا " (6) .
النقطة الرابعة : قبل بيان وفاء معاوية للإمام الحسن (عليه السلام) بالشروط لابدّ من
____________
1- تاريخ مدينة دمشق 13 / 263 ، المعجم الكبير 1 / 105 ، تهذيب الكمال 6 / 245 ، جواهر المطالب 2 / 197 ، الكامل في التاريخ 3 / 405 .
2- تنزيه الأنبياء : 223 .
3- مناقب آل أبي طالب 3 / 197 .
4- علل الشرائع 1 / 211 .
5- نفس المصدر السابق .
6- الاحتجاج 2 / 8 .
|
الصفحة 173 |
|