وقد وردت الألفاظ الدالّة على الاتّباع بطرق أُخرى صحيحة ، إذ الاقتصار على صحيح مسلم فقط ـ بعد القطع بأنّ هذا الصحيح لم يشتمل على الأحاديث النبويّة الصحيحة كلّها ـ يعد تضييعاً للسنّة النبويّة الشريفة وردّ لها ، وهو محرّم شرعاً .
الوجه الثاني : إنّ المتمعّن في الرواية التي ينقلها مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم ، يمكنه استفادة الحجّية فيها في متابعة أهل البيت (عليهم السلام) أيضاً .
وذلك لمورد العطف في كلام النبيّ (صلى الله عليه وآله) بعد ذكره للثقل الأوّل ، وهو الكتاب الكريم ، وقوله (صلى الله عليه وآله) بعد ذلك : ( وأهل بيتي ... ) ، أي كما ورد الأمر والحث بالتمسّك بالكتاب ، فأهل البيت (عليهم السلام) كذلك (1) .
ولو تنزّلنا هنا مع الخصم وقلنا ـ حسب دعواه ـ أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لم يوص هنا سوى بالمودّة والمحبّة لأهل البيت (عليهم السلام) المستفادة من كلمة أذكّركم ـ حسب فهمه ـ إلاّ أنّه يبقى مقام التمسّك بحجّية الاتّباع على قوّته حسب ألفاظ الحديث ، وذلك لأنّ الاتّباع إنّما هو جزء من المودّة والمحبّة التي أوصى بها النبيّ (صلى الله عليه وآله) في حقّ أهل بيته ، بل هو حقيقة المودّة والمحبّة حسب المفهوم القرآنيّ للمودّة والمحبّة ، كما في قوله تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ } (2) .
فلا يمكن المصير بعد ذلك إلى دعوى المودّة والمحبّة القلبية المجرّدة عن الاتّباع ، والقرآن الكريم يعدّ مؤسّساً للمفاهيم الشرعيّة التي يجب على المسلمين الأخذ بها ، والالتفات إليها وعدم تجاوزها .
الوجه الثالث : لقد ورد لفظ الأخذ والأمر به في رواية غير واحد ، كالترمذيّ في صحيحه (3) ، وابن أبي شيبة في مصنّفه (4) ، وأحمد في مسنده (5) ، وابن
____________
1- صحيح مسلم 7 / 123 .
2- آل عمران : 31 .
3- الجامع الكبير 5 / 329 .
4- المصنّف لابن أبي شيبة 7 / 176 و 418 .
5- مسند أحمد 3 / 59 .
|
الصفحة 352 |
|
سعد في طبقاته (1) ، والطبرانيّ في معجمه الكبير (2) .
قال القاري : ( والمراد بالأخذ بهم التمسّك بمحبّتهم ، ومحافظة حرمتهم ، والعمل بروايتهم ، والاعتماد على مقالتهم ) (3) .
وقال الخفاجي : ( ما أن أخذتم به ) أي : تمسّكتم وعملتم به واتبعتموه (4) ، فإذن الأخذ هو الاتّباع .
وفي الحديث الذي صحّحه الحاكم في المستدرك ، وتابعه الذهبيّ عليه ، قال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : ( إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وأهل بيتي ، وأنّهما لن يتفرّقا حتّى يردا عليّ الحوض ) (5) .
وفقه هذا الحديث ودلالته واضحة لمن له أدنى مسكة علم ، وتعرّف على علوم القرآن والعربية ، فعدم الافتراق عن القرآن يعني تمام طاعة أهل البيت (عليهم السلام) لله تعالى ، وهو دليل العصمة ، وعلامة الهداية ، إذ أنّ باقتراف المعاصي ـ ولو للحظة واحدة ـ يتحقّق الافتراق لغة ، وقد أخبر النبيّ (صلى الله عليه وآله) بعدمه ، كما في هذا الحديث الصحيح ، الأمر الذي يدلّ على كمال طاعتهم لله سبحانه ، وأنّهم أئمّة الهدى الواجب اتباعهم ، كما نصّ عليه القرآن بقوله : { أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } (6) .
وأمّا قوله (صلى الله عليه وآله) : ( حتّى يردا عليّ الحوض ) فهو دليل على وجود من يكون أهلاً للتمسّك به منهم في كلّ زمان إلى يوم القيامة ، وهذا المعنى الذي فهمناه
____________
1- الطبقات الكبرى 2 / 194 .
2- المعجم الكبير 3 / 66 و 180 و 5 / 166 و 182 .
3- تحفة الأحوذيّ 10 / 196 .
4- نسيم الرياض 3 / 410 .
5- المستدرك 3 / 148 .
6- يونس : 35 .
|
الصفحة 353 |
|
من الحديث فهمه العلماء الأعلام من أهل السنّة ، وشرّاح الأحاديث النبويّة .
قال ابن حجر في الصواعق : ( وفي أحاديث الحثّ على التمسّك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهّل منهم للتمسّك به إلى يوم القيامة ، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك ، ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض كما يأتي ، ويشهد لذلك الخبر السابق : في كلّ خلف من أُمّتي عدول من أهل بيتي ) (1) .
وقال الحافظ السمهودي : ( هذا الخبر يفهم وجود من يكون أهلاً للتمسّك به من أهل البيت والعترة الطاهرة في كلّ زمان إلى قيام الساعة , حتّى يتوجّه الحثّ المذكور إلى التمسّك به ، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك ، فلذلك كانوا أماناً لأهل الأرض ، فإذا ذهبوا ذهب أهل الأرض ) (2) .
____________
1- الصواعق المحرقة 2 / 442 .
2- فيض القدير 3 / 20 .
|
الصفحة 354 |
|
( أحمد . ... . ... )
السؤال : نحن عندما نحتجّ على أهل السنّة في نزول آية الإنذار ، أو حديث الدار ، يقولون : بأنّ البخاريّ روى عن ابن عباس قال : لمّا نزلت : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } (1) صعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) على الصفا ، فجعل ينادي : يا بني فهر ، يا بني عديّ ، لبطون قريش حتّى اجتمعوا ، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو ، فجاء أبو لهب وقريش ، فقال : ( أرأيتكم لو أخبرتكم أنّ خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي ) ؟ قالوا : نعم ، ما جربنا عليك إلاّ صدقاً .
قال : ( فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) ، فقال أبو لهب : تبّاً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا ؟ فنزلت : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } (2) ، فما رأيكم في هذا الكلام ؟ ودمتم سالمين .
الجواب : صحيح أنّ هذه الرواية وردت في صحيح البخاريّ عن ابن عباس ، ولكنّها رواية ساقطة عن الحجّية ، لأنّ ابن عباس إنّما أسلم بالمدينة ، وهذه القصّة كانت بمكّة ، وكان ابن عباس يومئذ إمّا لم يولد ، وإمّا طفلاً ، كما صرّح بذلك شرّاح صحيح البخاريّ ـ كالقسطلانيّ في ( إرشاد الساري ) ، والعسقلانيّ في ( فتح الباري ) ، والعينيّ في ( عمدة القاري ) ـ وعليه
____________
1- الشعراء : 214 .
2- المسد : 1 ـ 2 ، صحيح البخاريّ 6 / 16 .
|
الصفحة 355 |
|
فالرواية لا حجّية فيها لأنّها مرسلة ، هذا أوّلاً .
وثانياً : نحن إنّما نحتجّ عليهم بما رواه أعلام السنّة لحديث الدار الوارد في شأن نزول آية الإنذار (1) .
( عبد الله . ... . 29 سنة )
السؤال : ذكر ابن كثير في البداية والنهاية ، أنّ راوي حديث الدار هو عبد الغفّار بن القاسم أبو مريم ، وهو كذّاب شيعي ، اتهمه علي بن المديني وغيره بوضع الحديث ، وضعّفه الباقون (2) .
لو كان كلام ابن كثير صحيحاً ، لا يمكن لنا أن نثبت بحديث الدار إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فما هو الردّ على ذلك ، وشكراً على إجابتكم مقدّمة .
الجواب : يتّضح الجواب ببيان عدّة نقاط :
1ـ إنّ طعن ابن كثير لعبد الغفّار بن القاسم غير صحيح ، فقد وصفه ابن حجر العسقلانيّ بقوله : ( كان ذا اعتناء بالعلم وبالرجال ... ) ، وقال شعبة : ( لم أر أحفظ منه ... ) ، وقال ابن عدي : ( سمعت ابن عقدة يثني على أبي مريم ويطريه ، وتجاوز الحدّ في مدحه حتّى قال : لو ظهر على أبي مريم ما
____________
1- مسند أحمد 1 / 111 ، المعجم الأوسط 2 / 272 ، مجمع الزوائد 8 / 302 و 9 / 113 ، كنز العمال 13 / 128 و 149 ، شرح نهج البلاغة 13 / 210 ، تفسير القرآن العظيم 3 / 363 ، الدرّ المنثور 5 / 97 ، التاريخ الكبير 6 / 33 ، علل الدارقطنيّ 3 / 75 ، تاريخ الأُمم والملوك 2 / 62 ، البداية والنهاية 3 / 53 ، السيرة النبويّة لابن كثير 1 / 457 ، الكامل في التاريخ 2 / 62 ، دلائل النبوّة 2 / 179 ، نظم درر السمطين : 82 ، تاريخ مدينة دمشق 4 / 32 و 42 / 47 و 67 / 163 ، سبل الهدى والرشاد 2 / 324 ، ينابيع المودّة 1 / 311 ، جامع البيان 19 / 148 ، التفسير الكبير 8 / 536 ، السيرة النبويّة لابن إسحاق : 188 ، تفسير الثعلبي 7 / 182 .
2- البداية والنهاية 3 / 53 .
|
الصفحة 356 |
|
اجتمع الناس إلى شعبة ، قال : وإنّما مال إليه ابن عقدة هذا الميل لإفراطه في التشيّع ) .
ثمّ قال ابن حجر ـ في ترجمته ذاتها ـ : وقال البخاريّ : عبد الغفّار بن القاسم ابن قيس بن فهد ليس بالقوي عندهم .
حدّثنا أحمد بن صالح ، حدّثنا محمّد بن مرزوق ، حدّثنا الحسين بن الحسن الفزاري ، حدّثنا عبد الغفّار بن القاسم ، حدّثني عدي بن ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال حدّثني بريدة : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ( علي مولى من كنت مولاه ) (1) .
فمن هذا الحديث الذي ذكره جاء طعنهم عليه ، وتضعيفهم له .
2ـ لم ينفرد عبد الغفّار بن القاسم بحديث الدار فقط ، فقد ورد الحديث من طرق أُخرى ليس فيها عبد الغفار ، كما في : تاريخ ابن عساكر قال : أخبرنا أبو البركات عمر بن إبراهيم الزيديّ العلوي بالكوفة ، أنبأنا أبو الفرج محمّد ابن أحمد علان الشاهد ، أنبأنا محمّد بن جعفر بن محمّد بن الحسين ، أنبأنا أبو عبد الله محمّد بن القاسم بن زكريا المحاربي ، أنبأنا عباد بن يعقوب ، أنبأنا عبد الله بن عبد القدّوس ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن عباد ابن عبد الله عن علي بن أبي طالب قال : ( ... أيّكم يقضي ديني ، ويكون خليفتي ووصيي من بعدي ؟ ... فقلت : أنا يا رسول الله ، فقال : أنت يا علي ، أنت يا علي ) (2) .
وكما في تاريخ الطبري : حدّثني زكريا بن يحيى الضرير قال : حدّثنا عفّان ابن مسلم قال : حدّثنا أبو عوانة ، عن عثمان بن المغيرة ، عن أبي صادق ، عن ربيعة بن ناجد : أنّ رجلاً قال لعلي (عليه السلام) : يا أمير المؤمنين ، بم
____________
1- لسان الميزان 4 / 43 .
2- تاريخ مدينة دمشق 42 / 48