نهى عنها الإمام علي (عليه السلام) :
السؤال : بعد الصلاة على محمّد وآله الطيبين الطاهرين ، لماذا لم ينه الإمام علي (عليه السلام) عن صلاة التراويح على الرغم من أنّه (عليه السلام) لم تأخذه بالحقّ لومة لائم ؟
____________
1- سنن النسائي 3 / 189 ، السنن الكبرى للنسائي 1 / 550 و 3 / 450 ، صحيح ابن خزيمة 3 / 143 .
2- مسند أحمد 2 / 247 و 428 و 457 و 508 ، صحيح مسلم 4 / 102 ، السنن الكبرى للبيهقي 7 / 103 ، المعجم الأوسط 6 / 136 .
3- مسند أحمد 2 / 252 و 270 و 416 و 467 ، صحيح البخاري 4 / 8 .
4- الحشر : 7 .
5- المائدة : 11 .
|
الصفحة 205 |
|
وكان أوّل فعله عند استلامه للخلافة أن عزل الولاة الظالمين ، ومنهم الملعون معاوية بن أبي سفيان ، حيث لم ينتظر أمير المؤمنين (عليه السلام) أن تثبت لـه أركان الخلافة ، فلم لم ينه عن هذه الصلاة البدعة ؟
الجواب : لمّا ولي الإمام علي (عليه السلام) أُمور المسلمين ، وجد صعوبة كبيرة في إرجاع الناس إلى السنّة النبوية الشريفة ، وحظيرة القرآن الكريم ، وحاول جهده أن يزيل البدع التي أُدخلت في الدين ، ومنها صلاة التراويح ، ولكن بعضهم صاح : وا عمراه .
روى ذلك ابن أبي الحديد في شرح النهج ، حيث قال : " وقد روي أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لمّا اجتمعوا إليه بالكوفة ، فسألوه أن ينصب لهم إماماً يصلّي بهم نافلة شهر رمضان ، زجرهم وعرّفهم أنّ ذلك خلاف السنّة فتركوه ، واجتمعوا لأنفسهم وقدّموا بعضهم ، فبعث إليهم ابنه الحسن (عليه السلام) ، فدخل عليهم المسجد ومعه الدرّة ، فلمّا رأوه تبادروا الأبواب ، وصاحوا : وا عمراه " (1) .
وقال الإمام علي (عليه السلام) : " قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) متعمّدين لخلافه ، ناقضين لعهده ، مغيّرين لسنّته ، ولو حملت الناس على تركها ... إذاً لتفرّقوا عنّي ، والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة ، وأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممّن يقاتل معي : يا أهل الإسلام غيّرت سنّة عمر ! ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعاً ، ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري ... " (2) .
____________
1- شرح نهج البلاغة 12 / 283 .
2- الكافي 8 / 59 .
|
الصفحة 206 |
|
( أحمد محمّد . البحرين . 22 سنة . طالب جامعة )
السؤال : إذا كانت صلاة التراويح بدعة ، فما هو اختلافها مع صلاة جعفر الطيّار ؟
الجواب : لاشكّ أنّ كلا الصلاتين ـ صلاة التراويح وصلاة جعفر الطيّار ـ من الصلوات المستحبّة ، بمعنى ورد من الشارع المقدّس استحباب بإتيانهما ، كما ورد من الشارع المقدّس أنّ الصلوات المستحبّة لا تصلّى إلاّ فرادى ، ولو صلّيت جماعة تكون باطلة .
وعليه ، باعتبار أنّ صلاة التراويح عند أهل السنّة تصلّى جماعة لا فرادى ، فتكون باطلة وغير صحيحة .
وكما هو معلوم : أنّ صلاة التراويح ـ التي هي صلاة ألف ركعة تصلّى في ليالي شهر رمضان ـ إنّما صلّيت جماعة بعدما كانت تصلّى فرادى ، بأمر من عمر بن الخطّاب ، لا بأمر من الشارع المقدّس ، وعمر ليس لـه حقّ التشريع ، فصار إتيانها جماعة بدعة .
وقد اعترف عمر بنفسه بأنّها بدعة ، ولكن عبّر عن هذه البدعة بـ : " نعمت البدعة " ، بينما صلاة جعفر الطيّار ليست كذلك ، فإنّها تؤدّى فرادى لا جماعة .
|
الصفحة 207 |
|
( إبراهيم . السعودية . ... )
السؤال : هل تجوز الصلاة عند القبور ؟ وشكراً .
الجواب : قد جرت السيرة المطّردة من صدر الإسلام ـ منذ عصر الصحابة الأوّلين ، والتابعين لهم بإحسان ـ على زيارة قبور ، ضمّنت في كنفها نبيّاً مرسلاً ، أو إماماً طاهراً ، أو وليّاً صالحاً ، أو عظيماً من عظماء الدين ، وفي مقدّمها قبر النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) .
وكانت الصلاة لديها ، والدعاء عندها ، والتبرّك والتوسّل بها ، والتقرّب إلى الله ، وابتغاء الزلفة لديه بإتيان تلك المشاهد من المتسالم عليه بين فرق المسلمين ، من دون أيّ نكير من آحادهم ، وأيّ غميزة من أحد منهم على اختلاف مذاهبهم ، حتّى ولد ابن تيمية الحرّاني ، فجاء كالمغمور مستهتراً يهذي ولا يبالي ، فأنكر تلكم السنّة الجارية ، وخالف هاتيك السيرة المتبعة ، فإذاً دليل جواز الصلاة عند القبور سيرة المسلمين .
وأمّا حديث ابن عبّاس : لعن رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) زائرات القبور ، والمتّخذين عليها المساجد والسُرُج (1) ، فالظاهر والمتبادر من اتّخاذ المسجد على القبر
____________
1- مسند أحمد 1 / 229 ، سنن أبي داود 2 / 87 ، الجامع الكبير 1 / 201 ، سنن النسائي 4 / 95 .
|
الصفحة 208 |
|
هو السجود على نفس القبر ، وهذا غير الصلاة عند القبر ، هذا لو حملنا المساجد على المعنى اللغوي .
وأمّا لو حملناها على المعنى الاصطلاحي ، فالمذموم اتّخاذ المسجد عند القبور ، لا مجرّد إيقاع الصلاة ، كما هو المتعارف بين المسلمين ، فإنّهم لا يتّخذون المساجد على المراقد ، فإنّ اتّخاذ المسجد ينافي الغرض في إعداد ما حول القبر إعانة للزوّار على الجلوس لتلاوة القرآن وذِكر الله والدعاء والاستغفار ، بل يُصَلُّون عندها ، كما يأتون بسائر العبادات هنالك .
هذا ، مع أنّ اللعن غير دالٍّ على الحرمة ، بل يجامع الكراهةَ أيضاً .
( ... . البحرين . ... )
السؤال : ما هو ردّكم على كلام ابن تيمية حيث قال : لم يقل أحد من أئمّة السلف أنّ الصلاة عند القبور وفي مشاهد القبور مستحبّة ، أو فيها فضيلة ، ولا أنّ الصلاة هناك والدعاء أفضل من الصلاة في غير تلك البقعة والدعاء ، بل اتفقوا كُلّهم على أنّ الصلاة في المساجد والبيوت أفضل من الصلاة عند القبور (1) .
الجواب : إنّ ما دلّ على جواز الصلاة والدعاء في كُلّ مكان يدلّ بإطلاقه على جواز الصلاة ، والدعاء عند قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله) وقبور سائر الأنبياء والصالحين أيضاً ، ولا يشكّ في الجواز من لـه أدنى إلمام بالكتاب والسنّة ، وإنّما الكلام هو في رجحانها عند قبورهم .
فنقول في هذا المجال : إنّ إقامة الصلاة عند تلك القبور لأجل التبرّك بمن دفن فيها ، وهذه الأمكنة مشرّفة بهم ، وقد تحقّق شرف المكان بالمكين ، وليست الصلاة ـ في الحقيقة ـ إلاّ لله تعالى لا للقبر ولا لصاحبه ، كما أنّ
____________
1- رسالة القبور 1 / 28 .
|
الصفحة 209 |
|
الصلاة في المسجد هي لله أيضاً ، وإنّما تكتسب الفضيلة بإقامتها هنا لشرف المكان ، لا أنّها عبادة للمسجد .
فالمسلمون يصلّون عند قبور من تشرّفت بمن دفن فيها لتنالهم بركة أصحابها الذين جعلهم الله مباركين ، كما يصلّون عند المقام الذي هو حجر شرف بملامسة قدمي إبراهيم الخليل (عليه السلام) لها .
قال الله تعالى : { وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ... } (1) ، فليس لاتخاذ المصلّى عند ذلك المقام الشريف سبب إلاّ التبرّك بقيام إبراهيم (عليه السلام) عليه ، وهم يدعون الله عند القبور لشرفها بمن دفن فيها ، فيكون دعاؤهم عندها أرجى للإجابة وأقرب للاستجابة ، كالدعاء في المسجد أو الكعبة أو أحد الأمكنة ، أو الأزمنة التي شرّفها الله تعالى .
والحاصل : أنّه يكفي في جواز الصلاة الاطلاقات والعمومات الدالّة على أنّ الأرض جعلت لأُمّة محمّد مسجداً وطهوراً .
وأمّا الرجحان فللتبرّك بالمكان المدفون فيه النبيّ أو الولي ذي الجاه عند الله ، كالتبرّك بمقام إبراهيم ، أفلا يكون المكان الذي بورك بضمّه لجسد النبيّ الطاهر مباركاً ، مستحقّاً لأن تستحبّ عنده الصلاة وتندب عبادة الله فيه .
والعجب أنّ ابن القيّم جاء في كتابه زاد المعاد بما يخالف عقيدته ، وعقيدة أُستاذه ابن تيمية إذ قال : " وأنّ عاقبة صبر هاجر وابنها على البعد والوحدة ، والغربة والتسليم إلى ذبح الولد آلت إلى ما آلت إليه ، من جعل آثارهما ومواطئ أقدامهما مناسك لعباده المؤمنين ، ومتعبّدات لهم إلى يوم القيامة ، وهذه سنّته تعالى فيمن يريد رفعه من خلقه " (2) .
____________
1- البقرة : 125 .
2- زاد المعاد 1 / 75 .
|
الصفحة 210 |
|
فإذا كانت آثار إسماعيل وهاجر لأجل ما مسّها من الأذى مستحقّة لجعلهما مناسك ومتعبّدات ، فآثار أفضل المرسلين الذي قال : " ما أوذي نبيّ قطّ كما أوذيت " لا تستحقّ أن يعبد الله فيها ، وتكون عبادة الله عندها ، والتبرّك بها شركاً وكفراً ؟ كيف وقد كانت عائشة ساكنة في الحجرة التي دفن فيها النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وبقيت ساكنة فيها بعد دفنه ودفن صاحبيه ، وكانت تصلّي فيها ، وهل كان عملها هذا عبادة لصاحب القبر يا ترى ؟!
( ... . ... . ... )
لا ينافي قول : اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد :
السؤال : هناك أحاديث عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) تنهى عن الصلاة عند القبور ، حيث ورد عنه : " قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " (1) ، فأرجو الردّ .
الجواب : لا يخفى عليكم أنّ تاريخ اليهود لا يتّفق مع مضامين هذا الحديث ، لأنّ سيرتهم قد قامت على قتل الأنبياء وتشريدهم وإيذائهم إلى غير ذلك من أنواع البلايا التي كانوا يصبّونها على أنبيائهم .
ويكفي في ذلك قولـه تعالى : { لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } (2) .
وقولـه تعالى : { قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } (3) .
وقولـه تعالى : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ ... } (4) .
____________
1- صحيح البخاري 1 / 113 ، صحيح مسلم 2 / 67 .
2- آل عمران : 181 .
3- آل عمران : 183 .
4- النساء : 155 .
|
الصفحة 211 |
|
أفتزعم أنّ أُمّة قتلت أنبياءها في مواطن مختلفة تتحوّل إلى أُمّة تشيّد المساجد على قبور أنبيائها تكريماً وتبجيلاً لهم ؟ وعلى فرض صدور هذا العمل عن بعضهم ، فللحديث محتملات أُخرى غير الصلاة فيها والتبرّك بصاحب القبر ، وهي :
1ـ اتخاذ القبور قبلة .
2ـ السجود على القبور تعظيماً لها ، بحيث يكون القبر مسجوداً عليه .
3ـ السجود لصاحب القبر بحيث يكون هو المسجود لـه ، فالقدر المتيقّن هو هذه الصور الثلاث لا بناء المسجد على القبور تبرّكاً بها .
والشاهد على ذلك أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) حسب بعض الروايات يصف هؤلاء بكونهم شرار الناس .
أخرج مسلم : إنّ أُمّ حبيبة وأُمّ سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة ، فيها تصاوير لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : " إنّ أُولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً ، وصوّروا فيه تلك الصور ، أُولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة " (1) ، إنّ وصفهم بشرار الخلق يميط اللثام عن حقيقة عملهم ، إذ لا يوصف الإنسان بالشرّ المطلق إلاّ إذا كان مشركاً ـ وإن كان في الظاهر من أهل الكتاب ـ قال تعالى : { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } (2) .
وقال : { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } (3) ، وهذا يعرب عن أنّ عملهم لم يكن صرف بناء المسجد على القبر والصلاة فيه ، أو مجرد إقامة الصلاة عند القبور ، بل كان عملاً مقروناً بالشرك بألوانه ، وهذا كما في اتخاذ القبر مسجوداً لـه ، أو مسجوداً عليه ، أو قبلة يصلّي عليه .
____________
1- صحيح مسلم 2 / 66 .
2- الأنفال : 22 .
3- الأنفال : 55 .
|
الصفحة 212 |
|
قال القرطبي : " وروى الأئمّة عن أبي مرثد الغنوي قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول : " لا تصلّوا إلى القبور ، ولا تجلسوا عليها " ، أي لا تتخذوها قبلة فتصلّوا عليها أو إليها ، كما فعل اليهود والنصارى ، فيؤدّي إلى عبادة من فيها " (1) .
إنّ الصلاة عند قبر الرسول (صلى الله عليه وآله) إنّما هو لأجل التبرّك بمن دفن ، ولا غرو فيه وقد أمر سبحانه الحجيج باتخاذ مقام إبراهيم مصلّى ، قال تعالى : { وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } (2) .
إنّ الصلاة عند قبور الأنبياء كالصلاة عند مقام إبراهيم (عليه السلام) ، غير أنّ جسد النبيّ إبراهيم (عليه السلام) لامس هذا المكان مرّة أو مرّات عديدة ، ولكن مقام الأنبياء احتضن أجسادهم التي لا تبلى أبداً .
هذا وأنّ علماء الإسلام فسّروا الروايات الناهية بمثل ما قلناه ، قال البيضاوي : " لمّا كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيماً لشأنهم ، ويجعلونها قبلة يتوجّهون في الصلاة نحوها ، واتخذوها أوثاناً ، لعنهم ، ومنع المسلمين عن مثل ذلك .
فأمّا من اتخذ مسجداً في جوار صالح ، وقصد التبرّك بالقرب منه لا للتعظيم لـه ، ولا للتوجّه ونحوه ، فلا يدخل في ذلك الوعيد " (3) .
وقال السندي شارح سنن النسائي : " ومراده بذلك أن يحذّر (صلى الله عليه وآله) أُمّته أن يصنعوا بقبره ما صنع اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم من اتخاذ تلك القبور مساجد ، إمّا بالسجود إليها تعظيماً لها ، أو بجعلها قبلة يتوجّهون في الصلاة إليها " (4) .
____________
1- الجامع لأحكام القرآن 10 / 280 .
2- البقرة : 125 .
3- فتح الباري 1 / 438 ، فيض القدير 5 / 320 .
4- حاشية السندي على النسائي 2 / 41 .
|
الصفحة 213 |
|
( حسن . عمان . ... )
السؤال : كيف يمكن الردّ على من يقول : أنّ الإفطار في السفر ليس واجباً بل هو اختياري ، وهو يعتمد على قولـه تعالى : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } (1) ، أرجو أن يكون الردّ مفصّلاً .
الجواب : اتّفقت كلمة الفقهاء من الفريقين على مشروعية الإفطار في السفر تبعاً للذكر الحكيم ، والسنّة المتواترة ، إلاّ أنَّهم اختلفوا في كونه عزيمة أو رخصة ، نظير الخلاف في كون القصر فيه جائزاً أو واجباً .
ذهبت الإمامية ـ تبعاً لأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) ـ والظاهرية إلى كون الإفطار عزيمة ، واختاره من الصحابة : عبد الرحمن بن عوف ، وعمر وابنه عبد الله ، وأبو هريرة ، وعائشة ، وابن عباس ، ومن التابعين : سعيد بن المسيّب ، وعطاء ، وعروة بن الزبير ، وشعبة ، والزهري ، والقاسم بن محمّد بن أبي بكر ، ويونس ابن عبيد وأصحابه (2) .
وذهب جمهور أهل السنّة ـ وفيهم فقهاء المذاهب الأربعة ـ إلى كون الإفطار رخصة ، وإن اختلفوا في أفضلية الإفطار والصوم .
____________
1- البقرة : 184 .
2- أُنظر : المحلّى 6 / 258 ، المصنّف للصنعاني 2 / 567 .
|
الصفحة 214 |
|
ويدلّ على كون الإفطار في السفر عزيمة : الكتاب والسنّة ثمّ إجماع الإمامية والظاهرية ، أمّا الكتاب فيدلّ عليه قولـه سبحانه : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } (1) .
استثنى سبحانه صنفين : المريض والمسافر ، والفاء للتفريع ، والجملة متفرّعة على قولـه : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } وعلى قولـه : { أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ } فنبّه بالاستثناء على أنّه لو عرض عارض ـ من مرض أو سفر ـ فهو يوجب ارتفاع حكم الصوم ، وقضاءه بعد شهر رمضان { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } .
وعلى هذا المعنى فالآية بدلالتها المطابقية تفرض عليهما القضاء الذي هو يلازم عدم فرض الصيام عليهما ، وهذا يدلّ على أنّ الإفطار عزيمة ، إذ المكتوب عليهما من أوّل الأمر هو القضاء .
هذا وتظافرت السنّة المتواترة الواردة من طرق الشيعة والسنّة على أنّ الإفطار في السفر عزيمة ، ونذكر من كُلّ من الفريقين حديثين للاختصار ، وإذا أردت المزيد فعليك بكتاب البدعة للشيخ السبحاني :
1ـ عن الزهري عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال : " وأمّا صوم السفر والمرض ، فإنّ العامّة قد اختلفت في ذلك ، فقال : يصوم ، وقال آخرون : لا يصوم ، وقال قوم : إن شاء صام ، وإن شاء أفطر ، وأمّا نحن فنقول : يُفطر في الحالين جميعاً ، فإن صام في حال السفر أو في حال المرض فعليه القضاء ، فإنّ الله تعالى يقول : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } فهذا تفسير الصيام " (2) .
____________
1- البقرة : 184 .
2- وسائل الشيعة 10 / 174 .
|
الصفحة 215 |
|
2ـ عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : " سمّى رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوماً صاموا حين أفطر وقصّر : عُصاة ، وقال : هُم العصاة إلى يوم القيامة ، وإنّا لنعرف أبناء أبنائهم إلى يومنا هذا " (1) .
وأمّا ما رواه أهل السنّة في مجال الإفطار :
1ـ عن جابر بن عبد الله : أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) خرج عام الفتح إلى مكّة في رمضان ، فصام حتّى بلغ كراع الغميم فصام الناس ، ثمّ دعا بقدح من ماء فرفعه حتّى نظر الناس إليه ثمّ شرب ، فقيل لـه بعد ذلك : إنّ بعض الناس قد صام ؟ فقال : " أُولئك العصاة ، أُولئك العصاة " (2) .
وهذا الحديث صريح في أنّ الصوم في السفر معصية لا يجوز .
2ـ عن عبد الرحمن بن عوف قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : " صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر " (3) .
هذا وإن استدلّ القائلون بكون الإفطار في السفر رخصة لا عزيمة بقولـه تعالى : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } فالآية راجعة إلى المسافر ، فهو يدلّ مضافاً إلى جواز الصيام في السفر ، يدلّ على أفضليته فيه ، وينتج أنّ الإفطار رخصة والصيام أفضل .
ولكن يلاحظ عليه : أوّلاً : أنّ الاستدلال إنّما يتمّ لو لم نقل بأنّ الآية الثانية { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ... } (4) ناسخة للآية المتقدّمة برمّتها ، ومنها قولـه : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } ، وإلاّ فعلى القول بالنسخ ـ كما رواه البخاري ـ يسقط الاستدلال ، وإليك ما روى : قال : باب { وَعَلَى الَّذِينَ
____________
1- الكافي 4 / 128 ، من لا يحضره الفقيه 1 / 435 و 2 / 141 ، تهذيب الأحكام 4 / 217 .
2- صحيح مسلم 3 / 141 ، مسند أبي يعلى 3 / 400 ، صحيح ابن خزيمة 3 / 255 ، صحيح ابن حبّان 6 / 423 .
3- سنن ابن ماجة 1 / 532 ، الجامع الصغير 2 / 91 ، كنز العمّال 8 / 503 ، الدرّ المنثور 1 / 191 .
4- البقرة : 185 .
|
الصفحة 216 |
|
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ } (1) قال ابن عمر وسلمة بن الأكوع : نسختها { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ... } (2) .
وثانياً : إنّ الاستدلال مبنيّ على أن لا يكون قولـه سبحانه : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } ناسخاً لقولـه : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لـه } كما رواه البخاري عن ابن أبي ليلى ، أنّه حدّثه أصحاب محمّد (صلى الله عليه وآله) : نزل رمضان فشقّ عليهم ، فكان من أطعم كُلّ يوم مسكيناً ترك الصوم ممّن يطيقه ورخّص لهم في ذلك ، فنسختها : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } فأمروا بالصوم (3) .
إذ على هذا التفسير لا صلة بالمنسوخ والناسخ بالمسافر ، بل كلاهما ناظران إلى الحاضر ، فقد كان من يطيقه تاركاً للصوم مقدّماً للفدية ، فنزل الوحي وأمرهم بالصوم ، فأيّ صلة لـه بالموضوع .
وثالثاً : مع غضّ النظر عمّا سبق من الأمرين ، وتسليم أنّ الآية ليس فيها نسخ ـ كما هو الحقّ ـ نقول : إنّ قولـه : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } حضّ على الصيام ودعوة إلى تلك العبادة ، من غير نظر إلى المريض والمسافر والمطيق ، وإنّما هو خروج عن الآية بإعطاء بيان حكم كُلّي ، وهو أنّ الصيام خير للمؤمنين ، وليس عليهم أن يتخلّوا عنه لأجل تعبه ، ولأجل ذلك يقول : { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} .
قال العلاّمة الطباطبائي : " قولـه تعالى : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }جملة متمّمة لسابقتها ، والمعنى بحسب التقدير : تطوّعوا بالصوم المكتوب عليكم ، فإنّ التطوّع بالخير خير ، والصوم خير لكم ، فالتطوّع به خير على خير .
____________
1- البقرة : 184 .
2- صحيح البخاري 2 / 238 .
3- المصدر السابق 2 / 239 .
|
الصفحة 217 |
|
وربما يقال : إنّ قولـه : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } خطاب للمعذورين دون عموم المؤمنين المخاطبين بالفرض والكتابة ، فإنّ ظاهرها رجحان فعل الصوم غير المانع من الترك ، فيناسب الاستحباب دون الوجوب ، ويحمل على رجحان الصوم واستحبابه على أصحاب الرخصة من المريض والمسافر ، فيستحبّ عليهم اختيار الصوم على الإفطار والقضاء .
ويرد عليه : عدم الدليل عليه أوّلاً ، واختلاف الجملتين ، أعني قولـه : { فَمَن كَانَ مِنكُم ... } ، وقولـه : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } بالغيبة والخطاب ثانياً ، وأنّ الجملة الأُولى ليست مسوقة لبيان الترخيص والتخيير ، بل ظاهر قولـه : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } تعيّن الصوم في أيّام أُخر كما مرّ ثالثاً .
وأنّ الجملة الأُولى على تقدير ورودها لبيان الترخيص في حقّ المعذور لم يذكر الصوم والإفطار حتّى يكون قولـه : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } بياناً لأحد طرفي التخيير ، بل إنّما ذكرت صوم شهر رمضان ، وصوم عدّة من أيّام أُخر ، وحينئذ لا سبيل إلى استفادة ترجيح صوم شهر رمضان على صوم غيره ، من مجرد قولـه : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } من غير قرينة ظاهرة رابعاً .
وأنّ المقام ليس مقام بيان الحكم حتّى ينافي ظهور الرجحان كون الحكم وجوبياً ، بل المقام ـ كما مرّ سابقاً ـ مقام بيان ملاك التشريع ، وإنّ الحكم المشرّع لا يخلو عن المصلحة والخير والحسن ، كما في قولـه تعالى : { فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ } (1) ، وقولـه تعالى : { فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ } (2) ، وقولـه تعالى : { تُؤْمِنُونَ باللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } (3) ، والآيات من ذلك كثيرة " (4) .
____________
1- البقرة : 54 .
2- الجمعة : 9 .
3- الصف : 11 .
4- الميزان في تفسير القرآن 2 / 14 .
|
الصفحة 218 |
|
( محمّد . ... . 24 سنة )