مراحل عبادة العارفين:
ان الحقيقة الوحيدة التي هي محور البرامج الباطنية والظاهرية للعارفين هو الله سبحانه وتعالى. ان الذين عرفوا الله حق معرفته لا يرضون أن يغفلوا ولو ثانية واحدة عنه، ولا يجرؤون على معصية الله سبحانه وتعالى في أقل شيء.
ان حقيقتهم، وشريعتهم وطريقتهم تتلخص فقط وفقط في العبادة الخالصة لله جل وعلا.
ان اولئك يسعون فقط لكسب رضا الله سبحانه وتعالى في جميع شؤون حياتهم ولا يرون طريقاً غير طاعة وعبادة الله سبحانه وتعالى من أجل ذلك.
فأولئك بما لديهم من معرفة خاصة بالله سبحانه وتعالى،فقد وصلوا إلى هذه النتيجة بأن المؤثر الوحيد في العالم هو الله سبحانه وتعالى،ولا توجدحقيقة في هذه الدنيا غيره جل وعلا، لذا فإنّ عبادتهم تكون مثمرة.
الشهيد مطهري رضوان الله عليه يصف الحياة المثمرة بهذا النحو:
في الحقيقة، إن كل موجود يخطو خطوة نحو كماله المقدّر له ويرقى مرحلة من مراحل الكمال له، فإنّه يجتاز طريق القرب إلى الحق سبحانه وتعالى.
الانسان أيضاً احدى موجودات هذا العالم، وليس الطريق الوحيد لكماله هي الحضارة كما تسمّى اليوم، يعني تلك المجموعة من العلوم والفنون المفيدة في تحسّن هذه الحياة، ولا ليست في مجموعة من الآداب والمراسم اللازمة لتحسين الحالة الاجتماعية للإنسان.
ولكن إذا نظرنا إلى الإنسان من هذه الناحية فالهدف هو ما ذكرنا، لكن الإنسان لديه بُعد وطريق ثاني وتتحق عن طريق تهذيب النفس والتعرف على الهدف المنشود الأخير يعني ذات الحق القدسية الأحدية.
يا ربّ أغدق علينا شهد العباة في أفواهنا، ولا تأخذنا من أنفسنا عند أداءنا العبادة.
حينما نكبّر ونقف في الصلاة، لا تدعنا أن نفكر بأننا نملك مقاماً عالياً.
فسمّ بالله واطرد الشيطان عنك، وأم الكتاب شراب طهور في أفواهنا.
وزد حالة السكر لنا عند الركوع لك، وفي حالة ذروة السجود لك أعلي مقامنا.
وفي القنوت لا تكلنا ذرّة إلى أنفسنا، فنحن بألسنا نقول وأنت تسمع ذلك منا([1]).
من العبودية إلى الربوبية:([2])
في بداية الامر يُرى ان عبارة من العبودية إلى الربوبية هو تعبير مشمئز، ولكن هل يمكن لعبدٍ ان يخرج من حدود العبودية إلى حدود الربوبية؟
>أَيْنَ التُّرابُ وَرَبّ الأَرْبابِ<.
كما قال العارف شبستري:
فموجود أسود الوجه لا يمكنه، ان يفترق عن الله.
هذا صحيح ولكن المقصود من الربوبية ليس الربانية، وكل صاحب قدرة رب الاشياء التي ملكها.
إذ قال حضرة عبد المطلب لأبرهة الحبشي ـ الذي جاء لتخريب الكعبة ـ >إِنّى رَبُّ الإِبِلِ وَإِنَّ لِلْبَيْتِ رَبّاً<.
ونحن نعلم بأن البشر يطلب القدرة، ودسعى ائماً ولحد الآن وبذلك قصارى جهده لكي يجد طريق وسبيلاً للسيطرة على نفسه والعالم. وفعلاً لا نتطرق إلى اي الطرق سلك للوصول إلى هذا الهدف وهل كانت ناجحة أم لا.
ومن بين تلك الطرق هنالك طريق ذو وضع عجيب، ويستفاد الإنسان منه في وقت لا يملك مثل تلك الاهداف.
يعني عندما يكون هدفه ليس هو كسب القدرة والسلطة، بل بالعكس فهدفه هو التذلل، والخضوع، والفناء في الله سبحانه وتعالى، وهذا الطريق العجيب، هو طريق العبودية.
مراحل الربوبية:
إن الكمال والقدرة التي ينالها الإنسان إثر عبوديّته وإخلاصه وعبادته، يكون ذا مراحل ومنازل.
المرحلة الأولى: مجاهدة النفس والتحكم بها، وبعبارة أخرى إن أقل علامة لقبول عمل الإنسان عند الله سبحانه وتعالى، هو انه يكتسب عقيدة نافذة لينور بها طريقه:
P...إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً...O([3]).
وكذلك يقول سبحانه وتعالى: Pوَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا...O([4]).
وأخرى، ان هذا الإنسان يتغلب ويقهر نفسه واهوائه، و إرادته تصبح قوية في مقابل اهوائه النفسانية والحيوانية، ويكون الإنسان حاكم نفسه، ويكسب إدارة لائقة في دائرة وجود نفسه. يقول الله سبحانه وتعالى حول الصلاة:
>إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَر<([5]).
ويقول تعالى حول الصيام:
P...كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَO([6]).
ويقول الله تعالى حول العبادتين:
Pيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَO([7]).
في هذه المرحلة من العبودية ما يكون من نصيب الإنسان هو القدرة على تسخير اهوائه وملذاته النفسانية، بعبارة أخرى أن أولى آثاره هي العبودية، والربوبية والولاية على النفس الأمّارة بالسوء وعلى أثره يكتسب الإنسان الصفاء والهداية والتفاؤل.
المرحلة الثانية: التحكم والولاية على افكاره المبعثرة، يعني التحكم على القوة الخيالية، هذه القوة ليست تحت ارادتنا بل نحن تحت اختيارها، لذلك كلّما أردنا ان نركز أذهاننا على موضوع معين دون سواه، فإنه لا يمكن ذلك، و بدون إرادتنا فإن مخيلتنا تتبعثر إلى جهات مختلفة. فمثلاً، كلما سعينا ان يكون لدينا حضور قلب في الصلاة، يعني كلما بذلنا قصارى جهدنا على أن نبقي الطالب حاضراً في صلاة الجماعة، لا نستطيع. وفي نهاية الصلاة نلتفت فلا نجد الطالب في الصلاة.
فقد جاء في الحديث:
>لِقَلْبِ ابْنِ آدَمَ أَشَدُّ إِنْقِلاباً مِنَ القدْرِ إِذَا اجْتَمَعَتْ غَلَيا<([8]).
ولكن هل ان الإنسان حُكم عليه أن يكون أسير التفكر جبراً واضطراراً ، وأن هذه القوة العجيبة التي هي مثل العصفور تقفز من غصن إلى غصن تكون هي الحاكمة المطلقة، أم أن أسارة الإنسان في مقابل القوة التخلية هي من عدم رشده وتجربته، وأن أهل الكمال واولياء الله قادرين على ان يسخروا هذه القوة؟
الشق الثاني هو الصحيح، فإحدى وظائف البشر هو السيطرة على اهواء قوة الخيال، وإلا فإن هذه القوة التي لها صفة شياطنية لن تسمح للإنسان بأن يسلك صراط القرب إلى الله تعالى.
ولأجل أن ننتصر عليها، فليس هنالك شيء مثل طاعة الله جل وعلا وعبادته والذي أساسه التوجه إلى الله سبحانه وتعالى، ولكن الذين يأدّون الرياضات النفسية يدخلون من الطرق الآخرى، والإسلام يدخل عن طريق العبادة دون الاحتياج إلى الاستفادة من الطرق الغير صحيحة. فتوجه القلب إلى الله والتذكّر بأنه أمام ربّ الأرباب وخالق ومدبر الوجود، يهيئ أرضية تجميع وتركيز الذهن في الصلاة.
يقول ابن سينا في كتاب >الإشارات< في النمط التاسع، بعد توضيح وشرح عبادة عوام الناس والتي هي فقط من أجل الثواب، وليس لها قيمة كثيرة، يتطرّق إلى الحديث حول العبادة المقرونة بالمعرفة فيقول:
العبودية من وجة نظر العارف وأهل المعرفة، هي رياضة للهمم، وللقوة الخيالية. وإثر التكرار والتعود على حضور القلب في حضرة الله سبحانه وتعالى، يسعى دائماً إلى تغيير توجّهاتها من المسائل المادية والطبيعية نحو المسائل الملكوتية. وبالنتيجة فإن هذه القوة تنقاد إلى سرّ الضمير والفطرة الإلهية للإنسان، ومطيعة له لدرجة أنّه كلما أراد ان يشاهد الحق فإن هذه القوى لا تتحرك في خلاف الجهة، ولا يحصل تداخل بين القوى العلوية والسفلية، ودون أي مزاحمة فإن سر الباطن يتلقى الإشراق([9]).
المرحلة الثالثة: تصل الروح في مراحل قوتها، وقدرتها وربوبيتها وولايتها إلى درجة ومرحلة يكون فيها غير محتاج للبدن في كثير من الأحيان، في حال أن البدن يحتاج إلى الروح مائة بالمائة.
المرحلة الرابعة: ينقاد البدن من جميع الجهات إلى أوامر وإرادة الشخص، بحيث تحصل اعمال خارقة للعادة في دائرة جسده ، وهذا المطلب ذو شجون ويحتاج توضيحه إلى تفصيل كثير، يقول الإمام الصادق (عليه السلام):
>ما ضَعُفَ بَدَنٌ عَمّا قَوِيَتْ عَلَيْهِ النِيَّةُ<([10]).
المرحلة الخامسة: هي أعلى وأسمى المراحل، وذلك إن حتى الطبيعة الخارجية تصبح تحت نفوذ وإرادة الإنسان ومطيعة له. فمعجزات وكرامات الأنبياء والاولياء (عليهم السلام) من هذا الباب.
والمعجزة تحدث بان صاحبها لديه نوع من القدرة والإرادة حيث يستطيع بإذن الله سبحانه وتعالى، ان يتصرف في الكائنات، فالعصا تصير ثعباناً، والأعمى بصيراً، ويستطيع أن يحيى الموتى، ويعلم الغيب، وتحصل هذه القدرة والمعرفة له فقط عن طريق السير على الصراط المستقيم والتقرب إلى خالق الكون، والولاية والتصرف في المخلوقات لا تعني غير هذا الشيء.
كل هذه المراحل هي نتيجة وثمرة القرب إلى الله سبحانه وتعالى وهذه حقيقة واقعية وليس تعبيراً مجازياً واعتبارياً.
العبادة تكون سبباً للتقرّب، والتقرّب سبباً لمحبوبية العبد عند الله جل وعلا، بمعنى ان الإنسان بالعبادة يصبح قريباً من الله سبحانه وتعالى وعلى إثر هذا القرب؛ تكون له القابلية على إستقبال الفيوضات والعنايات الخاصة الإلهية، وعلى إثر تلك العنايات، تصبح اُذنيه، وعينيه، ولسانه ويديه الهية وحقّانية، فبقدرة الله يسمع ويرى ويقول أيضاً، وكذلك يدافع عن الحق، ويستجاب دعائه وتتحقق طلباته.
وعلى اساس اعتقاد مذهب التشيع، فالوسيلة الوحيدة للوصول إلى المقامات الإنسانية، واجتياز طريق العبودية بصورة كاملة وتامة، لا تكون إلا بالعناية الروحية والقيادة للإنسان الكامل الذي هو حجة وولي الله سبحانه وتعالى([11]).
>بُنِيَ الإِسْلامُ عَلى خَمْس: عَلَى الصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْوِلايَةِ وَلَمْ يُنادَ بِشَيْء كَما نُودِىَ بِالْوِلايَةِ<([12]).
نعم، فالإنسان مع العبادة الخالصة والإرشاد انسان كامل، فإن نفسه وقواه تصبح تحت نفوذ وارادة الحق، وعليه يتحول الإنسان إلى موجود رباني وذو كرامة.
وارى من الضروري في هذا الفصل ان على القراء البحث قليلاً في الآيات والروايات والكتب الاخلاقية العرفانية، وتربية النفس، عسى ان تفتح علينا باباً آخر من المعرفة والاعتقاد.