عربي
Sunday 19th of May 2024
0
نفر 0

الخوف والحب عند العارفين

انه لما جان موسم الحج، وبعد أداء المناسک، اتيحت لي فرصة من الوقت، فعندئذ قصدت زيارته حتى اسمع كلامه ومواعظه واستفيد منها.
الخوف والحب عند العارفين

يقول احد العارفين ـ السائرين في مسلك الحق والحقيقة ـ:

سمعت عن أحد العظماء الذي كان يسكن اليمن، و کان مشهوراً بالتواضع، والعقل، والحكمة، والفضل والمعروف. فلباس ظاهره كأهل الجهاد وباطنه، كأهل العرفان والصلاح. 

انه لما جان موسم الحج، وبعد أداء المناسک، اتيحت لي فرصة من الوقت، فعندئذ قصدت زيارته حتى اسمع كلامه ومواعظه واستفيد منها. 

فعندما علم جماعة من اصحابي عزمي على السفر رافقوني، وكان بين تلك الجماعة شاب؛ سيماه سيماء الصالحين وهيئته هيئة الخائفين ووجهه مصفر، من غير ان يعاني من مرض، وعيناه محمرتان دامعتان، كأن مصيبة قد نزلت به، فذهبت إليه وتحدثت معه بكلام حسن، أن يرافقني، لكنه رفض وكلما عاتبته وأنا في تلك الحالة التي فيها ونصحته بالصبر، لكن دون نفع أو جدوى، وكانت عيناه في كل لحظة تدمعان وكان يترنم بأشعار معناها:

يا أيها الناس الذين أنتم ما تفتؤا تلومونني! اعلموا بأني لن اتخلى عن عشقي  ولن يروى عطشي منه، كيف اصبر وكل لحظة يزداد حزني ويتبدل عزي فيه إلى ذلة؟ فيقولون: سوف تنخر عظام الإنسان واقول: حتى إذا نخر عظامي في البر فإن حبي يزداد لك منذ زمن بعيد وقلبي شرب من كأس حبك حتى منذ أيام الصبا والطفولة. 

تجول في ذاكرتي فتن وأهداف سامية، وتدور في مخيّلتي ثورة عارمة. 

كلّما أنظر إلى عيون الحبيب، ينتاب قلبي بركان من الثورة. 

 فهذا حجاب جاذب للقلوب، فقلبي هاربٌ من مكان لآخر. 

فالساقي موجود تحت حجاب الغيب، ويوجد في كلّ ناحية طرب وسكر. 

ويوجد في الداخل خمّار وخمر، وفي الخارج حالة سكر وغوغاء. 

يا أمل القلوب، انت أمنية لكل قلب. 

وفي تلك الحالة رافقنا ذلك الشاب، حتى وصلنا إلى تلك المدينة في اليمن التي كان يعيش فيها ذلك الرجل العظيم. 

فسألنا عنه، وذهبنا إلى بيته، وطرقنا بابه، فأتى شخص بسرعة وفتح الباب لنا، على هيئة شخص من أهل القبور، ودعانا إلى الدخول. فسبقنا ذلك الشاب بالسلام عليه وصافحه. فرد السلام عليه وصافحه. 

وتحدث معه بطريقة غريبة، وبشره بلسان أهل العرفان؛ بخبر سارٍ سيحدث له في المستقبل. 

ثم بعد ذلك اسرع الشاب في الكلام وقال: سيدي، ان الله سبحانه وتعالى جعلك وامثالك معالجاً لمرضى القلوب ودواء لداء الذنوب. 

يا سيدي إني أعاني من جرح اصابني وتسبب ذلك الجرح في تآكل اللحم والجلد في ذلك الموضع، وأعاني أيضاً، من ألم مزمن، فإذا كنت قد عرفت دائي؛ أرجو منك بأن تعطيني الدواء لذلك الداء. 

فقال ذلك الرجل العظيم: سلني عن كل ما في علاج هذا المرض، حتى أجيبك واحدة بواحدة عن ذلك؟

فسأل: «ما عَلامَةُ الْخُوفِ مِنَ اللّهِ تعالى؟»

فأجاب: «أَنْ يُؤمِنَكَ خَوْفُ اللّهِ تَعالى مِنْ كُلِّ خَوْف عَنْ غَيْرِ خَوْفِهِ»، وحينما سمع ذلك الشاب هذا الحديث تغير حاله، فصرخ واغمي عليه ثم انتبه بعد ساعة، فسأل ذلك من العارف: كيف يظهر خوف الله في قلب عبده؟

فقال: إن الإنسان جاء من العوالم الأخرى لهذا العالم فلذلك لن يظل سالماً، ويكون عليلاً وسقيماً، ولكي يدفع عن نفسه المرض، فإنه يلجأ إلى تناول الغذاء و الدواء، خوفاً من لدغة الفناء. 

فحينما سمع هذا الكلام من ذلك الشيخ، صرخ صرخة حتى ان جميع الجالسين ظنوا أنه فارق الحياة. وبعد لحظة رفع رأسه سائلاً:

«ما عَلامَةُ الُْمحَبَّةِ لِلّهِ تَعالى؟»

 فقال: «يا حَبيبي إِنَّ دَرَجَةَ الَْمحَبَّةِ لِلّهِ رَفيعَة». 

فألح الشاب على الشيخ بأن يوضح ما قاله. فقال:

«يا حَبيبي إِنَّ الُْمحِبِّينَ لِلّهِ تَعالى شَقَّ لَهُمْ عَنْ قُلُوبِهِمْ فَأَبْصَرُوا بِنُورِ الْقُلُوبِ إِلى جَلالِ عَظَمَةِ الإِلهِ الَْمحْبُوبِ، فَصارَتْ أَرْواحُهُمْ رُوحانِيَّةً، وَقُلُوبُهُمْ حُجُبِيّةً، وَعُقُولُهُمْ سَماويّةً تَشَرَّحُ بَيْنَ صُفُوفِ الْملائِكَةِ الْكِرامِ، وَتُشاهِدُ تِلْكَ الأُمُورِ بِالْيَقينِ وَالْعَيانِ فَعَبَدُوهُ بِمَبْلَغِ اسْتِطاعَتِهِمْ لا طَمَعاً في جَنَّتِهِ وَلا خَوْفاً مِنْ نارِهِ». 

عندما سمع الشاب هذه الحقائق، صرخ واخذته العبرة مختنقاً ببكائه، وفارق الحياة، فعندئذ أخذ ذلك الشيخ الفاضل برأس الشاب العاشق واضعاً إياه على ركبته، ومقبلاً وجهه، قائلاً: هذا هو حال الذين يخافون الله سبحانه وتعالى وهذه مرتبة العشاق والمحبيّن[1]. 

هنيئاً وطوبى لقلب أنت فيه، وعزيز من كان في طاعتك. 

ولا يذل إنسان في الدارين، ما دام قلبه متجها نحوك ويريدك. 

فوجودي كله يتمنّى أن، يصبح مطيعاً لك. 

القلب يزول غباره عندما يراك، وأطهّر نفسي ما استطعت للقائك. 

طوبى لعاشق هائم قد نسي قلبه، وأصبح حيراناً ومندهشاً لرؤيتك. 

متى اطمئن قلبي بغيرك، إلا أن يكون سكراناً لا نجذابك. 

فقلبي لا يرد زهور الصحراء، إلا زهور صحرائك يا ربّي. 

فلم أر سعادة في عالم الوجود، إلا في ركب تكون أنت فيه. 

فقلبي يكاد يزهق من فراقك، إلا أن تمنّ علينا برضاك[2]. 

 


[1]- نامه دانشوران: 9/21. 
[2]- الفيض الكاشاني. 

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخر المقالات

الخوف الممدوح
من العبودية إلى الربوبية
نبع العرفان
الخوف من ضآلة النفس امام عظمة الخالق
النبّاش؛ سارق الأكفان
صفات الله في الأدعية
وصايا الإمام الصادق(ع) للمفضل
العرفان من لسان الإمام علي(ع)
مراحل الربوبية
طهارة القلب

 
user comment