كان أهل البيت المثال والقدوة في طلب الزرق وقد ثقفوا أتباعهم ومحبيهم على طلب الرزق والكدّ على العيال جهاد في سبيل الله ولهذا كانوا ينهون عن التكاسل والتواكل قال الإمام الصادق×:
>لا تكلّوا في طلب معايشكم، فإنّ آباءنا كانوا يركضون فيها ويطلبونها<([1]).
ويورد مسند أحمد أن أمير المؤمنين× عضه الجوع فراح يبحث عن عمل في أطراف المدينة فرأى امرأة تجمع الحجارة لتنقعها بالماء فذهب إليها واتفق معها على أن يحمل إليها الماء كل دلو بتمرة فحمل إليها ستة عشر دلواً حتى مجلت يداه ثم صب على يديه الماء وذهب إلى المرأة فأعطته ستة عشر تمرة فذهب إلى النبي’ فأكل من ذلك التمر([2]).
وعن عبدالله بن الحسن قال: >والله لقد اعتق علي ألف أهل بيت بما مجلت يداه وعرق جبينه<([3]).
ورأى عبدالأعلى (من أصحاب الصادق×) الإمام الصادق× في يوم قائظ شديد الحر وهو في طريقه إلى بستان له في أطراف المدينة فقال له: أنت مع منزلتك تخرج في هذا القيظ والحر!!.
فقال×: >يا عبدالأعلى! خرجت في طلب الرزق لأستغني عن مثلك<([4]).
وعن علي بن الحسن قال: رأيت أبا الحسن (الإمام موسى بن جعفر×) يعمل في أرض له قد استنقعت قدماه في العرق، فقلت: جعلت فداك أين الرجال؟! فقال: يا علي! قد عمل باليد من هو خير مني في أرضه ومن أبي. فقلت: ومن هو؟ فقال: رسول الله’ وأمير المؤمنين× وآبائي كلهم كانوا قد عملوا بأيديهم، وهو من عمل النبيين والمرسلين والأوصياء والصالحين([5]).
وأهل البيت لم يزكوا المعاش للمعاد ولا المعاد لمعاش بل كانوا يمزجون بينهما مزجاً فطلب المعاش جهاد في سبيل الله والتفكير بالمعاد همهم الدائم فكانوا قدوة وأسوة والدنيا مزرعة الآخرة.
وقد حثَّ أهل البيت شيعتهم وأنصارهم ومحبيهم على الاهتمام بالعبادة والتزام التقوى في القول والعمل وأن عمران الآخرة لا يكون إلاّ بالإيمان والعمل الصالح والعبادة لأن ذلك هو طريق النجاة والفوز يوم القيامة يوم يقوم الناس لله رب العالمين.
أهل البيت والتعاليم الإنسانية
إن ثقافة أهل البيت× هي أسمى ثقافة إنسانية وأخلاقية وما وصل إلينا من أحاديثهم يعبر بوضوح كامل عن المديات التي بلغها أهل البيت^ في تعاليمهم الأخلاقية والإنسانية وكتب من قبيل الكافي، من لا يحضره الفقيه، تهذيب الأحكام، الاستبصار، بصائر الدرجات، المحاسن، الأمالي للمفيد، أمالي الطوسي، الخصال، جامع الأخبار، الملل، الشرائع، الوافي، الشافي، نور الثقلين، بحار الأنوار، وسائل الشيعة، مستدرك الوسائل، العوالم، المحجة البيضاء و.... غيرها من الكتب الحديثية تكشف عن هذه الحقيقة في أن ثقافة وفكر أهل البيت يمثل الذروة في ما وصلت إليه الإنسانية من سمو في الفكر ومجد في الأخلاق والنبل، لقد بيّن أهل البيت من خلال تعاليمهم الطريق المضيء الذي يجلب السعادة على الإنسان في الدنيا والآخرة.
وفيما يلي غيض من فيض وقطرات من بحر زخّار هو مسك الختام في هذا الفصل.
قال رسول الله’: >ما خلقتم للفناء، بل خلقتم للبقاء وإنّما تنقلون من دار إلى دار<([6]).
وقال’: >إن أخوف ما أخاف على أمتي الهوى وطول الأمل<([7]).
وقال’: >عزّ المؤمن استغناؤه عن الناس وفي القناعة
الحرّية<([8]).
وقال الإمام علي×: >المرء يوزن بقوله ويقوّم بفعله، فقل ما ترجح زنته وافعل ما تجل قيمته<([9]).
وعنه× أيضاً: قال: >تحلّوا بالأخذ بالفضل والكف عن البغي والعمل بالحق والإنصاف من النفس<([10]).
وعنه× أيضاً قال: >ينبغي للعاقل أن يحترس من سكر المال، وسكر القدرة، وسكر العلم، وسكر المدح، وسكر الشباب، فإن لكل ذلك رياحاً خبيثة، تسلب العقل وتستخف الوقار<([11]).
وعن الزهراء÷ قالت:
>إني أحب من دنياكم ثلاثاً الإنفاق في سبيل الله وتلاوة كتاب الله والنظر في وجه أبي رسول الله<([12]).
أهل البيت والتواضع
عن أبي عبدالله الصادق× قال: >إن في السماء ملكين موكلين بالعباد فمن تواضع لله رفعاه ومن تكبر وضعاه<([13]).
وعن أبي عبدالله الصادق× قال: أفطر رسول الله عشية خميس في مسجد قبا، فقال: هل من شراب؟ فأتاه أوس بن خولي الأنصاري بعس مخيض بعسل فلما وضعه على فيه فحّاه ثم قال: >شربان يكتفى بأحدهما من صاحبه لا أشربه ولا أحرمه، ولكن أتواضع لله، فإن من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر خفضه الله، ومن
اقتصد في معيشته رزقه الله، ومن بذّر حرمه الله، ومن أكثر من ذكر الموت أحبّه الله<([14]).
عن محمد بن مسلم قال سمعت أبا جعفر (الإمام الباقر×) يذكر أنه أتى رسول الله’ ملك فقال: إن الله تعالى يخيّرك أن تكون عبداً رسولاً متواضعاً أو ملكاً رسولاً قال: فنظر إلى جبرئيل× وأومأ بيده أن تواضع، فقال: متواضعاً رسولاً؛ فقال الرسول: مع أنه لا ينقصك مما عند ربّك شيئاً قال: وكان معه مفاتيح خزائن الأرض([15]).
ونظر الإمام الصادق إلى رجل من أهل المدينة قد اشترى لعياله شيئاً وهو يحمله فلما رآه الرجل استحيى منه فقال له أبو عبدالله: اشتريته لعيالك وحملته إليهم. أما والله لولا أهل المدينة لأحببت أن أشتري لعيالي الشيء ثم أحمله إليهم<([16]).
العلاقات الاجتماعية
قال الإمام الصادق×: >إيما رجل من شيعتنا أتاه رجل من أخواننا فاستعان به في حاجة فلم يعنه وهو يقدر ابتلاه الله عزّ وجلّ بأن يقضي حوائج عدوّ من أعدائنا يعذّبه الله عليه يوم القيامة<([17]).
وعن الإمام الصادق×: >المؤمن المحتاج رسول الله تعالى إلى الغني القوي فإذا خرج الرسول بغير حاجته غفرت للرسول ذنوبه وسلّط الله على الغني القوي شياطين تنهشه، قال: يخلّي بينه وبين أصحاب الدنيا فلا يرضون بما عنده حتى يتكلّف لهم، يدخل عليه الشاعر فيسمعه فيعطيه ما شاء فلا يؤجر عليه، فهذه الشياطين التي
تنهشه<([18]).
وعنه× أيضاً: قال: >أيما مؤمن منع مؤمناً شيئاً مما يحتاج إليه وهو يقدر عليه من عنده أو من عند غيره، أقامه الله عزّ وجلّ يوم القيامة مسودّاً وجهه مزرقّة عيناه مغلولة يداه إلى عنقه، فيقال: هذا الخائن الذي خان الله ورسوله ثم يؤمر به إلى النار<([19]).