دعاوه فى الصلاه على حمله العرش و كل ملك مقرب
عالم الملائكه:
فى الايمان الدينى حديث متنوع عن الملائكه كمخلوقات غيبيه مستغرقه فى عباده الله، خاضعه له، ذاكره له فى التهليل و التكبير و التسبيح و التقديس، تتنزل بامره على من يشاء من عباده، و تتنوع ادوارها فى الكون، فهناك اسرافيل صاحب الصور الذى يطلق الصيحه التى توقظ الاموات من القبور فينطلقون للوقوف بين يدى الله للحساب، و هناك ميكائيل الذى يمثل الموقع الكبير فى الجاه عند الله من خلال المكان الرفيع فى طاعته، و هناك جبرائيل الامين على وحى الله المطاع فى السماوات، المقرب عند الله و صاحب المكانه لديه، و هناك الروح الذى هو على ملائكه الحجب، و الروح الذى هو من امر الله، و هناك فريق آخر من الملائكه الساكنين فى السماوات الذين هم دون هولاء مرتبه و لكنهم يعيشون العباده، كما لو كانت طعامهم و شرابهم و لذتهم، من دون سام و لا تعب و لا فتور، لا يغفلون عنها بشى ء، و لاتشغلهم شهواتهم عن الاستغراق فى تعظيم الله، لان الشهوات لا تقترب اليهم من قريب او بعيد، فهم الخاشعون الخاضعون، الراغبون بما عند الله، المتواضعون ابدا لجلال كبريائه، الذاكرون ابدا لالائه.
و هناك قبائل الملائكه الذين يمثلون الخاصه من المقربين لله الساكنين فى بطون اطباق السماوات، المنتظرين لامر الله، كل طعامهم و شرابهم تقديس الله الذى اغناهم عن كل شى ء، المنتشرين فى ارجاء السماوات عند نزول الامر لله فى تمام وعده، فمنهم خزان المطر و زواجر السحاب و مشيعو الثلج و البرد، و القوام على خزائن الرياح الموكلون بالجبال حتى لا تزول، و الذين يملكون المعرفه بمثاقيل المياه و كل ما تحويه الرياح، و منهم الموكلون بالبلاء الذى ينزل على اهل الارض، و الرخاء الذى ينتشر فيهم، و منهم السفراء الكرام البرره و الحفظه الكاتبون، و منهم ملك الموت و اعوانه، و منكر و نكير و رومان فتان القبور، و منهم الطائفون بالبيت المعمور و مالك و الخزنه و رضوان و سدنه الجنان، و الذين لا يعصون الله ما امرهم و يفعلون ما يومرون، و الذين يستقبلون المومنين ليقولوا لهم: (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار)(الرعد: 24).
و منهم الزبانيه الذين اذا قيل لهم: (خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه)(الحاقه: 31 -30)، ابتدروه سراعا و لم ينظروه. و منهم الكثيرون الذين لم نعرف اسماءهم و ادوارهم ممن اوكل الله اليهم امر الخلق فى الشوون المختلفه، من سكان الارض و الماء و الهواء.
مع الملائكه فى الدعاء:
تلك هى الصوره التى يقدمها الدعاء الينا عن الملائكه، ليعبر- فى وعى الانسان- عن حركه الايمان بهم فى الوجدان، فيتحول ذلك الى مشاعر حميمه تدفعه الى الابتهال الى الله ان يصلى عليهم و يرفع درجاتهم و يزيدهم كرامه على كرامتهم و طهاره على طهارتهم، حتى يعيش الانسان المومن الداعى التفاعل معهم فى تصوراته و تطلعاته، لا سيما انهم يبتعدون عن شوون وجوده فى الدنيا، و مواقع حركته فى الاخره، مما يجعل من الحديث عنهم و الصلاه عليهم تاكيدا للعلاقه بهم، اثاره للاحاسيس المنفتحه على كل مواقع الايمان بالغيب، حتى يكون الغيب فى آفاقه الغامضه الضبابيه، حركه فى الشهود من خلال الايحاء المستمر بمفرداته فى الفكر و الشعور.
و ربما كان ادب الدعاء فى هذه الامور اسلوبا من اساليب التربيه فى تحريك الوجدان الدينى نحو اللقاء بكل المفردات الغيبيه، ليعيش الانسان فى اجوائها، و ينفتح على آفاقها، فيقربها الى نفسه، و يثيرها فى فكره، فيكون الوجدان فى وعى الروح و التفاته الذكر بديلا عن الحس الذى تطمئن النفس اليه فى راحه الايمان، لان ذلك يمنح الذات الانسانيه الفه له و اعتيادا عليه، حتى كانه حاضر لديها حضور المحسوسات، و هذا ما نلاحظه فى احساس الانسان بالله و الملائكه و بالجنه و النار و الحور العين و الولدان المخلدين، و غير ذلك من الغيب، من خلال الذكر الدائم، و التفكير العميق المستمر.
طبيعه الملائكه فى راى الناس:
و قد حاول الناس تقديم صوره الملائكه لاذهانهم بالطريقه التى يحددون فيها حقيقتهم، فذكروا فى ذلك عده وجوه و اقوال:
احدها: و هو قول المحققين من المتكلمين: انها اجسام لطيفه، نورانيه الهيه، خيره سعيده، قادره على التصرفات السريعه، و الافعال الشاقه، و التشكل باشكال مختلفه، ذوات عقول و افهام، مسكنها السماوات، و بعضها عند الله اقرب من بعض و اكمل درجه كما قال تعالى- حكايه عنهم-:(و ما منا الا له مقام معلوم)(الصافات: 164). و الى هذا القول ذهب اكثر المسلمين، و فى اخبار اهل البيت (عليهم السلام) ما يدل عليه.
الثانى:-و هو قول عبده الاوثان انها هى هذه الكواكب الموصوفه بالسعود و النحوس و انها احياء ناطقه، فالمسعدات ملائكه الرحمه، و المنحسات ملائكه العذاب.
الثالث: و هو قول معظم المجوس و الثنويه القائلين بالنور و الظلمه، و انهما جوهران حساسان قادران متضادان فى النفس و الصوره، مختلفان فى الفعل و التدبير. فجوهر النور فاضل، خير، طيب الريح، كريم النفس، يسر و لا يضر، و ينفع و لا يمنع، و يحيى و لا يبلى، و الظلمه ضد ذلك.
فالنور يولد الاولياء، و هم الملائكه، لا على سبيل التناكح بل كتولد الحكمه من الحكيم، و الضوء من المضى ء. و جوهر الظلمه يولد الاعداء و هم الشياطين، كتولد السفه من السفيه.
الرابع: قول من قال: انها ليست باجسام بل جواهر متحيزه، ثم اختلفوا، فقال بعضهم- و هم طوائف من النصارى-: انها هى النفوس الناطقه المفارقه لابدانها، فان كانت خيره صافيه فهم الملائكه، و ان كانت شريره كثيفه فهى الشياطين. و قال آخرون- و هم الفلاسفه-: انها مخالفه لنوع النفوس الناطقه البشريه، و انها اكمل قوه، و اكثر علما، و نسبتها الى النفوس البشريه نسبه الشمس الى الاضواء، فمنها نفوس ناطقه فلكيه، و منها عقول مجرده.
و منهم من اثبت انواعا اخر من الملائكه: و هى الارضيه المدبره لاحوال العالم السفلى، خيرها الملائكه، و شريرها الشياطين.
واقع الملائكه فى القرآن الكريم:
و نحن نلاحظ على هذه التفاسير انها لا تمنحنا ايه تصورات تفصيليه عنهم بحيث نستطيع من خلالها ان نضع لهم صوره فى مستوى النموذج، بل كل ما هناك، هو المفاهيم الضبابيه التى تثير المعنى و لكنها لا تقدم المثال، لذلك فاننا لا نجد فائده فى ذلك، باعتبار انها من عالم الغيب الذى لا نطلع عليه الا من خلال مصادره القدسيه مما جاء فى الكتاب او ثبت من السنه، و نحن نلاحظ ان الله لم يحدثنا عنهم الا من خلال بعض خصائصهم العمليه و ادوارهم الكونيه، فهم ينزلون فى ليله القدر (باذن ربهم من كل امر)(القدر: 4). مما يوحى بوجود مهمات موكوله اليهم فى النظام الكونى مما عبر عنه الله سبحانه فى سوره الدخان: (فيها يفرق كل امر حكيم امرا من عندنا)،(الدخان: 5 -4).
و هم الحافظون لعباد الله الموكلون بقبض ارواحهم (و هو القاهر فوق عباده و يرسل عليكم حفظه حتى اذا جاء احدكم الموت توفته رسلنا و هم لايفرطون)(الانعام: 61).
(و لو ترى اذ الظالمون فى غمرات الموت و الملائكه باسطو ايديهم اخرجوا انفسكم)،(الانعام: 93).
(له معقبات من بين يديه و من خلفه يحفظونه من امر الله)(الرعد: 11).
و هم الكاتبون لاعمال العباد (قل الله اسرع مكرا ان رسلنا يكتبون ما تمكرون)(يونس: 21).
(اذ يتلقى المتلقيان عن اليمين و عن الشمال قعيد ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد)(ق: 18 -17).
و هم العابدون و الذين لا يستكبرون عن عبادته، المسبحون الساجدون له (ان الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته و يسبحونه و له يسجدون)(الاعراف: 206).
(يسبحون الليل و النهار لا يفترون)(الانبياء: 20)(و ترى الملائكه حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم)(الزمر: 75).
و هم يستغفرون لمن فى الارض (و الملائكه يسبحون بحمد ربهم و يستغفرون لمن فى الارض)(الشورى: 5).
و هم الذين يعرجون الى الله فى يوم القيامه (تعرج الملائكه و الروح اليه فى يوم كان مقداره خمسين الف سنه)(المعارج: 4).
و هم (الذين يحملون العرش و من حوله و يسبحون بحمد ربهم و يومنون به و يستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شى ء رحمه و علما فاغفر للذين تابوا و اتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا و ادخلهم جنات عدن التى و عدتهم و من صلح من آبائهم و ازواجهم و ذرياتهم انك انت العزيز الحكيم و قهم السيئات و من تق السيئات يومئذ فقد رحمته و ذلك هو الفوز العظيم)(غافر: 9 -7).
و هم الذين يتنزلون على المومنين بالله المستقيمين على خطه، ليبشروهم بالجنه و ليعلنوا لهم و لا يهتم لهم (ان الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكه الا تخافوا و لا تحزنوا و ابشروا بالجنه التى كنتم توعدون نحن اولياوكم فى الحياه الدنيا و فى الاخره و لكم فيها ما تشتهى انفسكم و لكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم)(فصلت: 32 -30).
و هم عباد الله المكرمون الذين لا يسبقونه بالقول و هم بامره يعملون، و هم الشفعاء الذين لا يشفعون الا لمن ارتضى (و قالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بامره يعملون يعلم ما بين ايديهم و ما خلفهم و لا يشفعون الا لمن ارتضى و هم من خشيته مشفقون)(الانبياء: 28 -26).
و قد حدثنا الله انه ادار الحوار معهم حول خلق آدم باعتباره الخليفه الذى يريد له ان يتحمل مسووليه الارض، فكان سئوالهم عن الحكمه فى ذلك، لعلمهم، من خلال تعريف الله لهم او من خلال تجربه انسانيه سابقه بائده كما يقال، بان هذا الخليفه- الانسان سوف يفسد فيها و يسفك الدماء، و اذا كان دوره ان يسبح و يحمد الله و يقدسه، فانهم قائمون بهذا الدور العبادى، و لكن الله رد عليهم بانه يعلم ما لا يعلمون.
ثم اجرى للملائكه امتحانا فى معلوماتهم الارضيه، ليثبت لهم انهم لا يملكون كل المعرفه ليكونوا بديلا عن هذا الخليفه، و ذلك عندما علم آدم الاسماء كلها مما يتصل بمسووليته العامه فى اداره شوون الحياه على الارض، و سال الملائكه عن هذا الجانب من العلم فلم يملكوا جوابا، فطلب من آدم ان يعرفهم ذلك، و انتهى الحوار بالحقيقه الحاسمه، و هى ان الله هو الذى يملك علم غيب السماوات و الارض و ما يبديه الخلق و ما يكتمونه مما يفرض عليهم ارجاع كل الامور اليه و التسليم له فى كل شى ء.
و ذلك هو قوله تعالى: (و اذ قال ربك للملائكه انى جاعل فى الارض خليفه قالوا اتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك قال انى اعلم ما لاتعلمون و علم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكه فقال انبئونى باسماء هولاء ان كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا انك انت العليم الحكيم قال يا آدم انبئهم باسمائهم فلا انباهم باسمائهم قال الم اقل لكم انى اعلم غيب السماوات و الارض و اعلم ما تبدون و ما كنتم تكتمون)(البقره: 33 -30).
و ما دمنا فى اجواء الملائكه مع آدم، فان الله قد امر الملائكه بالسجود لادم تحيه له و تعظيما للابداع الالهى فى خلقه، فسجدوا امتثالا لامره و انقيادا له، لان المساله لم تكن مساله سجود لهذا المخلوق، بل هى امتداد لعبوديتهم لله و خضوعهم المطلق له، فلا مجال لديهم- من ناحيه ذاتيه- لسئوال او اعتراض، و هكذا تم الامر بكل بساطه طبيعيه، و لكن (ابليس ابى و استكبر و كان من الكافرين)(البقره: 34)- و قد كان من الجن لا من الملائكه- لاستغراقه فى ذاته بعيدا عن الاستغراق فى عباده ربه، و هكذا انطلق الملائكه، فى هذا الموقف، ليكونوا عباد الله المكرمين الذين (لا يسبقونه بالقول و هم بامره يعملون)(الانبياء: 27).
علاقه الملائكه مع الانبياء (ع):
و يحدثنا القرآن عن الملائكه كيف يجعلهم الله رسلا و ذلك قوله تعالى: (جاعل الملائكه رسلا)(فاطر: 1)، فيرسلهم بالمهمات الخاصه فى الارض لينزلوا العذاب على بعض الناس الذين يسعون فى الارض فسادا و يمارسون الفاحشه فى شكلها المنحرف، و هو اللواط، و هم قوم لوط الذى ارسله الله اليهم ليدعوهم الى الله و لينقذهم من هذا الانحراف الاخلاقى الجنسى، و ليحولهم الى اناس صالحين ينفتحون على الله فى مواقع رضاه، و يتبعون رسله، و لكنهم طغوا و بغوا و تجبروا و استضعفوه بينهم حتى قال لهم: (لو ان لى بكم قوه او اوى الى ركن شديد)(هود: 80).
فقد جاءوا فى البدايه الى ابراهيم- باعتباره مسوولا عن لوط فى مسووليته الرساليه- ليتحدثوا معه عن مهمتهم فى انزال العذاب على قوم لوط، و ليبشروه بغلام حليم بعد ان بلغ و زوجته (من الكبر عتيا)(مريم: 8) فاستغرب البشرى لمخالفتها القوانين العاديه فى ذلك، و حاول ان يدخل معهم فى جدال فى قوم لوط لياخذوا فرصه جديده، و لكنهم قالوا له عن البشرى: انها امر الله القادر على كل شى ء، و عن قوم لوط ان العذاب قد صدر من الله بشكل حاسم، و هكذا قاموا بالمهمه (فلما جاء امرنا جعلنا عاليها سافلها و امطرنا عليها حجاره من سجيل منضود مسومه عند ربك و ما هى من الظالمين ببعيد)(هود: 83 -82). و نلاحظ فى الايات التى نقلت لنا القصه، ان الملائكه قد جاءوا الى ابراهيم ثم الى لوط بصفه شباب حسان الوجوه، و لذلك بادر ابراهيم الى دعوتهم للطعام، كما انطلق قوم لوط اليهم ليعتدوا عليهم بالفاحشه، مما ادى الى ارباك لوط و شعوره بالخزى امام ضيوفه، الامر الذى يوحى بانهم لا يظهرون بصورتهم الحقيقيه التى حدثنا الله عنها بانهم (اولى اجنحه مثنى و ثلاث و رباع)(فاطر: 1)، لان الخلق لا يتحملون ذلك، و هذا ما تحدث الله عنه فى آيه اخرى- فى رده على الذين يقولون: لا بد ان يبعث الله ملكا رسولا- قال تعالى: (و لو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا و للبسنا عليهم ما يلبسون)(الانعام: 9).
و هذه آيات القصه فى سوره هود، فى قوله تعالى:
(و لقد جاءت رسلنا ابراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث ان جاء بعجل حنيذ فلما راى ايديهم لاتصل اليه نكرهم و اوجس منهم خيفه قالوا لا تخف انا ارسلنا الى قوم لوط و امراته قائمه فضحكت فبشرناها باسحق و من وراء اسحق يعقوب قالت يا ويلتى ءالد و انا عجوز و هذا بعلى شيخا ان هذا لشى ء عجيب قالوا اتعجبين من امر الله رحمت الله و بركاته عليكم اهل البيت انه حميد مجيد فلما ذهب عن ابراهيم الروع و جاءته البشرى يجادلنا فى قوم لوط ان ابراهيم لحليم اواه منيب يا ابرهيم اعرض عن هذا انه قد جاء امر ربك و انهم ءاتيهم عذاب غير مردود و لما جاءت رسلنا لوطا سى ء بهم و ضاق بهم ذرعا و قال هذا يوم عصيب و جاءه قومه يهرعون اليه و من قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هولاء بناتى هن اطهر لكم فاتقوا الله و لا تخزون فى ضيفى اليس منكم رجل رشيد قالوا لقد علمت ما لنا فى بناتك من حق و انك لتعلم ما نريد قال لو ان لى بكم قوه ءاوى الى ركن شديد قالوا يلوط انا رسل ربك لن يصلوا اليك فاسر باهلك بقطع من الليل و لا يلتفت منكم احد الا امراتك انه مصيبها ما اصابهم ان موعدهم الصبح اليس الصبح بقريب)(هود: 81 -69).
و يحدثنا الله ان الملائكه نادت زكريا الذى دعا ربه: (قال رب هب لى من لدنك ذريه طيبه انك سميع الدعاء فنادته الملئكه و هو قائم يصلى فى المحراب ان الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمه من الله و سيدا و حصورا و نبيا من الصالحين)(آل عمران: 39 -38).
كما تحدثت مع مريم عن اصطفاء الله لها و توجيهها لعباده الله، و تبشيرها بعيسى، و ذلك هو قوله تعالى:
(و اذ قالت الملئكه يا مريم ان الله اصطفاك و طهرك و اصطفاك على نساء العالمين يا مريم اقنتى لربك و اسجدى و اركعى مع الراكعين)(آل عمران: 43 -42).
(اذ قالت الملئكه يا مريم ان الله يبشرك بكلمه منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها فى الدنيا و الاخره و من المقربين و يكلم الناس فى المهد و كهلا و من الصالحين)(آل عمران: 46 -45).
و هكذا نجد ان القرآن لا يريد لنا ان نخوض فى حقيقه الملائكه و طبيعتهم الذاتيه بالكلمات التى لا تمنحنا الا المفاهيم الضبابيه البعيده عن كل صوره تفصيليه، و لذلك لم يحدثنا عن ذلك، بل يريد لنا ان نتصورهم فى عبادتهم لله و طاعتهم له و مهماتهم المتصله بالحياه و الكون و الانسان فى الدنيا و الاخره، و هذا ما ينبغى لنا ان نقف عنده فى حركه المعرفه العقيديه الاسلاميه.
و يحدثنا الله عنهم انه كان يرسلهم ليثبتوا النبى و المومنين فى الساعات الصعبه التى تتعرض فيها الرساله للخطر.
فنراه يتحدث الينا فى قصه النبى ليله الهجره فى قوله تعالى: (الا تنصروه فقد نصره الله اذ اخرجه الذين كفروا ثانى اثنين اذ هما فى الغار اذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا فانزل الله سكينته عليه و ايده بجنود لم تروها)(التوبه: 40). و هولاء الجنود هم الملائكه. و يتحدث الينا فى قصه المومنين فى بدر فى قوله تعالى: (اذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم انى ممدكم بالف من الملائكه مردفين و ما جعله الله الا بشرى و لتطمئن به قلوبكم و ما النصر الا من عند الله ان الله عزيز حكيم)(الانفال: 10 -9).
و قوله تعالى: (اذ يوحى ربك الى الملائكه انى معكم فثبتوا الذين آمنوا)(الانفال: 12).
و لكن الملائكه لا يقاتلون، بل كان دورهم تثبيت المومنين و الايحاء بالبشاره بالنصر لهم من خلال القوه الروحيه المعنويه التى يحصلون عليها من خلال ذلك.
مفهوم ملائكه العرش فى القرآن:
اما حمله العرش فيحدثنا الله عنهم انهم ثمانيه، و ذلك هو قوله تعالى: (و يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانيه)(الحاقه: 17).
و فى آيه اخرى يحدثنا الله عن الملائكه- من دون ذكر عددهم- من حول العرش، فى قوله تعالى: (و ترى الملائكه حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم و قضى بينهم بالحق و قيل الحمد لله رب العالمين)(الزمر: 75).
اما العرش، فقد يظهر من بعض الايات، و منها هاتان الايتان، انه منطقه معينه فى الكون تمثل الموقع الاعلى فيه، مما يبرر اعتباره كنايه عن موقع السلطه لله، ليتحدث القرآن تاره عنه باستواء الله عليه (الرحمن على العرش استوى)(طه: 5)، و اخرى بان الله هو (رب العرش العظيم)(التوبه: 129) و (هو رب العرش الكريم)(المومنون: 116) و (ذو العرش المجيد)(البروج: 15)، لان الله ليس جسدا يحتويه مكان معين، و ربما نستوحى ذلك من قوله تعالى: (و كان عرشه على الماء)(هود: 7) باعتبار ان الكون كان ماء بحيث كانت سلطته المطلقه فى آفاق الماء.
و ربما كان ذلك كافيا فى التصور لان المساله لاتتصل بالتفاصيل بل تقف عند المبدا فى ايحاءات الفكره من خلال الاسلوب القرآنى الذى يوكد على وحدانيه الله و علوه و ارتفاعه و سيطرته على الكون كله، و يقدم لنا الصوره المجرده، من خلال الصوره الماديه للعرش، باعتباره مركز السلطه، و «الكرسى»(وسع كرسيه السموات و الارض)(البقره: 255)، باعتباره موقع المملكه، لان الحديث عن الله فى حقيقه ذاته غيب لا يمكن الوصول اليه و لانملك التعبير عنه، لاننا لا نجد هناك اى افق للتصور فى خط المعرفه، فيما عدا المفاهيم التى يتحرك فيها العقل بين الامكان و الاستحاله، فى ما يدركه من المفاهيم التى تتصل بوجوده.
الملائكه فى عبادتهم:
يا رب، لقد خلقت الملائكه ارواحا تهيم بك، و تستغرق فى عبادتك، و تذوب فى حبك، و تستنفد حياتها فى طاعتك، و تنفتح- فى اشراقه المعرفه- على معرفتك، ينابيع نور و صفاء، و اشراقه طهر و نقاء، من حمله عرشك الذى هو رمز الملك المطلق فى ملكك، فى عمق القدره و امتدادها، و علو العظمه و ارتفاعها، و هيمنه القوه و سلطانها، هولاء الذين (يسبحون الليل و النهار لا يفترون)،(الانبياء: 20). فهم فى تسبيح دائم على مدى الزمن لا تتخلله فتره و لا يصيبهم فتور و لا كلال، كما هو التنفس الذى لا يكل و لا يهدا، هو التسبيح الملائكى فى انفتاح الروح على الله من دون سامه او ملاله، و هو التقديس الذى يتلمس عظمه الله فى تنزيهه و ابعاده عن كل الصفات التى لا تليق به و لا تتناسب مع جلاله، فهم يتابعونه و لا يسامون منه، لانه طعامهم و شرابهم و لذاتهم الروحيه.
و هم الجادون فى عبادتك التى يستمرون فيها، فيتجدد نشاطهم و تقوى ارادتهم فلا يتعبون منها، مهما كانت طبيعتها فى كميتها و نوعيتها، فهم يمارسونها من موقع الحاجه اليها و الحب لها، كما لو كانت شانا من شوون الذات، فلا يقصرون فيها اختيارا للراحه، لان راحتهم تتعمق فى جهدهم الروحى الذى يسمو بهم الى مواقع القرب اليك فى استغراقهم فى امرك الذى يعيشون سره فى كياناتهم قبل ان تصدره اليهم. و هم فى يقظه دائمه، و احساس مستمر، و انتباه متحرك، مشدودين اليك فى حنين الواله، و وله الحبيب، و لذلك اندمجوا فى ايحاءات الوهيتك، و تطلعوا الى آفاق عظمتك، و عاشوا الشوق اليك حتى كان قلوبهم تقفز من صدورهم فى التطلع الى مواقع القرب منك، و قد قلت- و قولك الحق- فى الحديث عنهم (و من عنده لا يستكبرون عن عبادته و لا يستحسرون)(الانبياء / 19).
الملائكه بين الجبر و الاختيار:
و قد حاول العلماء اثاره البحث فى مساله الجبر و الاختيار فى الملائكه، تعليقا على قول الامام (ع)«و لا يوثرون التقصير على الجد فى امرك» من حيث دلالتها على «انهم قادرون على التقصير لكنهم لا يوثرونه اختيارا للجد عليه و تفاديا عنه».
و المساله محل خلاف- كما يقول صاحب «رياض السالكين»- فذهب الفلاسفه و اهل الجبر: الى انهم خير محض، و انهم مطبوعون على الطاعات، لا قدره لهم على الشرور و المعاصى. و ذهبت المعتزله و جمهور الاماميه: الى ان لهم قدره على الامرين بدليل قوله تعالى: (و من يقل منهم انى اله من دونه فذلك نجزيه جهنم)(الانبياء / 29). و هذا يقتضى كونهم مزجورين. و قوله تعالى: (لا يستكبرون عن عبادته)(الاعراف: 206). و المدح بترك الاستكبار انما يحسن لو كان قادرا على الاستكبار، و لو لا ذلك ما استحقوا ثوابا على طاعاتهم، اذ لو كانوا مطبوعين على الطاعات لم يكن عليهم مشقه فى التكليف، فلم يستحقوا ثوابا، و التكليف انما يحسن فى كل مكلف تعريضا للثواب، فلا بد ان يكون لهم شهوات فى ما حظر عليهم، و نفار عما اوجب عليهم، حتى تحصل فائده التلكيف.
و نلاحظ على ذلك ان ما ذكره جمهور الاماميه و المعتزله من الاستدلال على الاختيار للملائكه، غير دقيق، لان الايات وارده فى مورد الحديث عن صفاتهم من خلال الخصائص الذاتيه التى توجب المدح، فان غير المتكبر ممدوح على ذلك من حيث الصفه فى الذات، بقطع النظر عن الاساس فى الاتصاف بها، و لا مانع من ان يمدح الانسان على الصفات الاختياريه كما يمدح على جماله الذى لا اختيار له فيه. اما الحديث عن الايه التى تتحدث عن التهديد بنار جهنم لو تحقق الشرك منهم، فانها مسوقه لبيان القضيه، من خلال الفرضيه التى قد تكون مستحيله، للتاكيد على ان الشرك يستتبع النار فى الحالات التى يختار المخلوق فيها الالتزام به، بعيدا عما اذا كان هذا المخلوق مما يمكن صدوره منه. اما حديث الثواب، فاننا اذا سلمنا انه استحقاق بالتفضل بما تفضل الله به على عباده بوعدهم به مما يجعل لهم حقا فيه، فانه لا مانع ان يكون بالتفضل بشكل مباشر، مع ملاحظه ان القرآن لم يتحدث عن ثواب الملائكه.
و على ضوء ذلك، لا مانع من القول بانهم خير محض، و انهم مطبوعون على الطاعات، و يويده ما ورد فى بعض الاحاديث ان الله خلق الملائكه عقلا بلا شهوه، كما خلق الحيوان شهوه بلا عقل، و خلق الانسان بعقل و شهوه معا.
دور اسرافيل صاحب الصور:
هذا الملك الذى اوكل الله اليه مهمه ايقاظ الاموات من رقده الموت العميقه من خلال النفخ فى القرن فى صوت يبعث الحياه فى طبيعه الموت، لينطلق الناس من الاجداث الى ربهم مسرعين، و هذا ما حدثنا الله عنه فى كتابه فى قوله تعالى: (و نفخ فى الصور فاذا هم من الاجداث الى ربهم ينسلون قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن و صدق المرسلون)(يس: 52 -51).
و جاء فى تفسير الدر المنثور عن النبى (ص) انه قال:«لما فرغ الله من خلق السموات و الارض خلق الصور فاعطاه اسرافيل (عليه السلام)، فهو واضعه على فيه، شاخص بصره الى العرش حتى يومر، قيل: يا رسول الله ما الصور؟ قال: القرن، قيل: كيف هو؟ قال: عظيم! و الذى نفسى بيده ان عظم داره كعرض السماوات و الارض، فيومر بالنفخ فيه، فينفخ نفخه لا يبقى عندها فى الحياه احد الا من شاء الله، و ذلك قوله تعالى: (و نفخ فى الصور فصعق من فى السموات و من فى الارض الا من شاء الله)(الزمر: 68).
ثم يومر باخرى فينفخ نفخه لا يبقى معها ميت الا بعث و قام، و ذلك قوله تعالى: (ثم نفخ فيه اخرى فاذا هم قيام ينظرون)(الزمر: 68).
و هكذا نجد من خلال نص الدعاء و نص الحديث ان هذا الملك يقف على استعداد متحفز انتظارا للامر الالهى بالنفخه التى يستيقظ فيها صرعى القبور المقيمون فيها المرتهنون لها، ليقوم بدوره الكونى الذى لا يملك الناس ان يتصوروه باحساسهم المادى البشرى، لانهم لم يدخلوا مثل هذه التجربه العجيبه المعجزه فى حياتهم، فلا يعرفون لها نموذجا مماثلا، و لو بشكل مصغر، بل هو شان من شئوون الغيب الذى يومن به الانسان المومن من خلال النبوات المنفتحه على غيب الله فى وحيه.
و اذا كان الدعاء يتحدث عن دور اسرافيل فى ايقاظ الاموات من الاجداث، فان النص القرآنى الذى استوحاه الحديث النبوى يتحدث عن نفخه سابقه لا تبقى معها حياه على الارض الا بمشيئه الله.
دور ميكائيل المستغرق فى عبادته:
و هذا الملك يروى «انه موكل بارزاق الاجساد و الحكمه و المعرفه للنفوس، و له اعوان موكلون على جميع العالم، من شانهم احداث قوه النهوض فى الاركان و المولدات و غيرها، التى بها الوصول الى الغايات و بلوغ الكمال كملائكه الرياح و السحب و الامطار و النبات و الحيوان و المعادن، فكل ذلك باعوانه».
و ذلك هو مظهر الجاه عند الله من خلال المكان الرفيع من طاعته له.
دور جبرائيل الامين على الوحى:
و هذا الملك مميز فى دوره الكبير باعتباره و سيطا بين الله و رسله، فقد كان الامين على الوحى فى دقه الحفظ و سلامه التبليغ، كما انه- من خلال الدعاء، و ما ورد فى بعض الاخبار- المطاع فى ملائكه السماوات، فهم يصدرون عن امره و يرجعون الى رايه، و لكننا، مع ايماننا بذلك، لا نعرف طبيعه هذا الموقع الملائكى السماوى فى طبيعه الدور و حركه المسووليه و خط الطاعه، لاننا لانملك سبيلا الى معرفته.
غير اننا نعرف، من خلال دوره الارضى الرسالى، و موقعه الحركى السماوى، انه يملك المنزله العظيمه الرفيعه عند الله التى استحق بها هذا الموقع المميز، و موقع القرب الكبير لديه، و ربما كان هذا الحديث عن جبرائيل فى الدعاء، الماحا الى قوله تعالى فى وصفه:
(انه لقول رسول كريم ذى قوه عند ذى العرش مكين مطاع ثم امين)(التكوير: 21 -19).
و قد حدثنا الله عن بعض الناس- الذين جاء الحديث عنهم انهم اليهود- انهم يعادون جبرائيل، فقد قيل: ان اليهود سالوا النبى محمدا (ص): من الذى ينزل عليك بالوحى الذى تدعيه؟ فقال: انه جبرائيل، فقالوا له: انه عدونا الذى نبغضه لانه ملك العذاب و الحرب، و لذلك فلا يمكن ان نقبل بما ياتى به، و لو كان الذى ياتيك ميكال لامنا بك لانه ملك اليسر و الرخاء، فنزلت الايه الكريمه و هى قوله تعالى: (قل من كان عدوا لجبريل فانه نزله على قلبك باذن الله مصدقا لما بين يديه و هدى و بشرى للمومنين من كان عدوا لله و ملئكته و رسله و جبريل و ميكل فان الله عدو للكافرين)(البقره: 98 -97).
دور الروح الممتثل لامر الله:
و هذا الخلق هو الملك كما لو كان روحا مجرده ترعى و تقود ملائكه الحجب الذى قيل عنه انه عالم ما فوق السماوات من الانوار و الكلمات و غيرها التى حجبت عن تعلق علم المخلوقين بما وراءها.
و قد جاء فى حديث اميرالمومنين على بن ابيطالب (عليه السلام) فى خطبته فى صفه الملائكه ما قد يكون اشاره الى ذلك، قال: «و بين فجوات تلك الفروج زجل المسبحين منهم فى حظائر القدس و سترات الحجب و سرادقات المجد».
اما الروح الذى هو من امر الله، فهو الذى اشارت اليه الايه الشريفه: (و كذلك اوحينا اليك روحا من امرنا)(الشورى: 52)، و هو من الملائكه المقربين، و يقال: انه خلق اعظم من جبرائيل و ميكائيل.
علاقه الملائكه بالله تعالى:
اللهم ارفع درجتهم و قرب منازلهم اليك بصلاتك عليهم و على غيرهم من الملائكه الذين لم يصلوا الى درجاتهم العليا فى مواقع القرب و علو المنزله، من هولاء الذين اسكنتهم سماواتك و جعلت لكل منهم دورا فى حركه الكون، و ائتمنتهم على رسالاتك، فكانوا الوسائط بينك و بين خلقك فى ابلاغ وحيك بالطريقه التى اردتها ان تكون الوسيله لاستلهام الملائكه وحى الرساله، و لابلاغها الى رسلك، فلا يخونون و لا يخطئون، فهم (يخافون ربهم من فوقهم و يفعلون ما يومرون)(النحل: 50)
و لا ينالهم السام و الملل من اجتهادهم و جدهم فى حركه مسوولياتهم، لانهم يحبون اعمالهم انطلاقا من اخلاصهم اليك، مما يدفعهم الى ان يجددوا نشاطهم و يحركوا حيويتهم فى التزامهم بكل اعمالهم، و لا يصيبهم التعب و الاعياء من الكلل او الضعف، لان قواهم تكبر و تشتد و تتجدد فى كل مرحله من مراحل العمل، لان مهماتهم الالهيه تمثل لذتهم و شهوتهم و طعامهم و شرابهم.
و هم المسبحون لك، المنفتحون على آفاق عظمتك و اسرار قدرتك الدائبون عليهما، لا تشغلهم عن ذلك الشهوات، لان التسبيح هو كل شهواتهم، و لا يبعدهم او يقطعهم سهو او غفله لانهم المتنبهون ابدا، فهم فى يقظه دائمه لا مجال فيها لنوم او نسيان.
و هم الخاشعون فى ابصارهم فلا يرفعونها اليك خشيه منك و هيبه لك، و هم الذين يطاطئون رووسهم و اذقانهم فى احساس منهم بالخضوع المطلق لك، و انفعال روحى بالقهر الربوبى الذى يسيطر على الوجود كله، و فى رغبه دائمه فى مدى الزمن، بما عندك من لطف و رحمه و رضوان، فهم مشدودون اليك فى عباده مستمره لا مجال فيها لتعب او ملل او انقطاع.
و هم المولعون بذكر نعمك المتتاليه، الشاكرون لك من خلالها، فلا حديث لهم بغيرها، و لا عمل لهم الا ذلك، و لا يبالون- فى كل ولعهم الروحى- بلوم اللائمين، لان الولع منطلق من معرفتك فى كل آلائك، و من ايمانهم العميق بك.
و هم المتواضعون اليك فى شعورهم العميق بعظمتك التى لا يدانيها شى ء، و جلالك الذى لا يقترب منه جلال، و كبريائك الذى ينطلق من المستوى الاعلى فى الشرف و الرفعه و التجبر و الملك و الكمال المطلق، من خلال ما الهمتهم من معرفتك التى فتحت آفاقهم على كل آفاق العظمه فى مواقع ربوبيتك و فى سر ذاتك.
و هم الذين يسبحونك فى ادراكهم لقدرتك و سيطرتك على كل خلقك، فيقولون، اذا راوا جهنم التى تشتد فى زفيرها الذى يوحى بالغيظ على الذين عصوا ربهم فلم يخضعوا لجلاله و قدرته و عظمه الوهيته، حيث يدفعهم هذا الجو الى الانفتاح عليك فى كل ما يوحى اليهم بالتعظيم لذاتك فى رحاب الاحساس بعبوديتهم لك، فيرون من انفسهم التقصير فى عبادتك، بالرغم من كل الاستغراق الذى عاشوا فيه الاخلاص لك، و يستغربون من اولئك الذين اندفعوا فى معصيتك، و يعودون الى الايحاءات الروحيه فى ذلك ليقولوا: ما عبدناك حق عبادتك، لانك تستحق منا و من عبادك الطاعه فى حركه العباده فى حركه تصاعديه، فلا نبلغ منها درجه الا لتفتح لنا منها درجه اعلى فى مدارج القرب اليك.
الصلاه على ملائكه الله فى مختلف مواقعهم:
اللهم صل عليهم فى طاعتهم و اخلاصهم فى عبادتك، و على الفريق الاخر من الملائكه المتنوعه ادوارهم، المختلفه مواقعهم، فهناك الروحانيون الذين يعيشون صفاء الروحيه المنفتحه عليك فى مواقع قدسك، و على عبادك فى ساحات عبادتك، و القريبون اليك باخلاصهم و روحانيتهم.
و هناك الذين يحملون الغيب- الذى لا يعلمه الا انت- الى رسلك فى ما تختصهم به، مما يحتاجون اليه فى رسالاتهم، و فى حركه التحديات الصعبه فى حركتهم، ليبلغوهم ذلك، كما ينطلقون فى تبليغ وحيك اليهم بما ائتمنتهم منه عليه من آيات وحيك و شرائع رسالاتك، و هناك قبائل الملائكه الذين قربتهم اليك و جعلتهم من خاصتك و فرغتهم لك، فلا يشغلون عنك بطعام و لا شراب، لان طعامهم التقديس لك و شرابهم التسبيح و التحميد و التهليل لك، و جعلتهم فى المساحات الممتده فى آفاق سماواتك، و فى داخل طبقاتهم فى مواقع الانتشار فيها،
ليكونوا فى موقف الاستعداد الدائم لتنفيذ اوامرك اذا نزل امرك بتمام وعدك فى قضايا الكون و الحياه و الانسان.
و هناك الموكلون بالمطر الذين يخزنون مياهه فى مواقعها التى حددتها فى علمك ، و العاملون على زجر السحاب فينطلق صوته بالرعود القاصفه، و تتحرك به و تمتد فى جريانه البروق الصاعقه،
و المشيعون للثلج و البرد ليبلغوه مواقعه التى يامر الله بها، و الهابطون مع قطرات المطر النازله الى الارض، و القائمون على خزائن الرياح ليوجهوها حسب القوانين التى اودعها الله فى الفضاء تبعا للمصالح التى تتوزعها اوضاع الحياه و الانسان، و الموكلون بالجبال من اجل ابقائها على مواقعها الثابته فلا تزول عنها بفعل الزلازل و غيرها، و العارفون بمثاقيل المياه مما تحتاجه الارض منها، و تحديد المقادير التى تحملها الامطار الشديده و المتراكمه القطر من الماء.
اسماء بعض الملائكه و مهماتهم:
و هناك الرسل الذين ترسلهم الى اهل الارض ليوكدوا تفاصيل سننك الكونيه و الانسانيه، من البلاء الذى يتناول اوضاعهم الفرديه و الاجتماعيه بما يكرهونه، او من الرخاء الذى ينتشر فى حياتهم العامه و الخاصه، و فى ارضهم بالغنى و الثروه و الخصب و النمو، بما لا نعرف طبيعته و لا ندرك كنهه.
و هناك السفره الكرام البرره، الذين حدثتنا عنهم فى قولك- سبحانك-:(فى صحف مكرمه مرفوعه مطهره بايدى سفره كرام برره)،(عبس: 16 -13). فهولاء هم الكرام عليك الاعزه عندك، الاتقياء الانقياء، المطيعون لك الذين يتولون السفاره بالوحى بينك و بين انبيائك، على ما اشارت اليه الايات الكريمه.
و هناك الحفظه الكرام الكاتبون، هولاء الذين كانت الاشاره اليهم بقولك- تعاليت-:(و ان عليكم لحافظين كراما كاتبين)(الانفطار: 11 -10). و هم طائفتان: ملائكه اليمين للحسنات و ملائكه الشمال للسيئات، كما جاء فى قولك- سبحانك-:(اذ يتلقى المتلقيان عن اليمين و عن الشمال قعيد ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد)،(ق: 18 -17).
و هم الذين يسجلون على العباد كل اعمالهم و يحفظونه فى كتاب الاعمال الذى يقدم للانسان فى يوم القيامه، كما جاءت الاشاره اليه فى قوله تعالى: (اقرا كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا)(الاسراء: 14).
و قوله تعالى: (و وضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه و يقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيره و لا كبيره الا احصاها و وجدوا ما عملوا حاضرا و لا يظلم ربك احدا)(الكهف: 49).
و قد نفهم من بعض فقرات دعاء كميل المروى عن الامام على (عليه السلام) انهم لا يطلعون على خلفيات الاعمال من النيات و الدوافع النفسيه، لان الله وحده هو الذى يطلع عليها، و لا يملك احد غيره الاطلاع على ذلك الا من خلال ما يدل عليها من اعماله و اقواله، و هذه الفقرات هى: «و كل سيئه امرت باثباتها الكرام الكاتبين، الذين وكلتهم بحفظ ما يكون منى و جعلتهم شهودا على مع جوارحى، و كنت انت الرقيب على من ورائهم و الشاهد لما خفى عنهم و برحمتك اخفيته و بفضلك سترته».
و قد استوحى الامام جعفر الصادق (عليه السلام) هذا الدور فى ايحاءاته، فقد روى عنه انه قال: «استعبدهم الله بذلك و جعلهم شهودا على خلقه، ليكون العباد لملازمتهم اياهم، اشد على طاعه الله مواظبه و عن معصيته اشد انقباضا، و كم من عبد هم بمعصيه فذكر مكانهم فارعوى و كف، فيقول: ربى يرانى و حفظتى على بذلك تشهد».
و قد نجد فى بعض ادعيه الامام زين العابدين (عليه السلام) ان كتاب الحسنات يرتاحون لها- اى للحسنات-، فيقول فى بعض ادعيه «الصحيفه السجاديه»:«و يتولى كتاب الحسنات عنا مسرورين بما كتبوا من حسناتنا».
و فى دعاء الصباح و المساء: «اللهم يسر على الكرام الكاتبين مونتنا و املا لنا من حسناتنا صحائفنا»، مما يدل على ان السيئات تثقلهم و ان الحسنات تخفف عنهم و تيسر لهم امرهم».
و ربما يطلق الحفظه على الحفظه للعباد، و هم الذين يحفظونهم من امر الله تعالى من الافات التى تعرض لهم، و ذلك من خلال ما ورد فى تفسير قوله تعالى: (له معقبات من بين يديه و من خلفه يحفظونه من امر الله)،(الرعد: 11)، فقد جاء فى الحديث عن الامام ابى جعفر محمد الباقر (عليه السلام) انه قال: «من امر الله ان يقع فى ركى او يقع عليه حائط او يصيبه شى ء حتى اذا جاءه القدر خلوا بينه و بينه فيدفعونه الى القادر، و هما ملكان يحفظانه بالليل و ملكان بالنهار يتعاقبانه».
و هناك ملك الموت الذى يتحرك فى مهمته الكبرى فى قبض ارواح الخلق بشكل دائم مستمر مع اعوانه من الملائكه، و هذا ما جاء فى القرآن الكريم فى قوله تعالى: (قل يتوفاكم ملك الموت الذى و كل بكم)(السجده: 11).
و قوله تعالى: (الذين تتوفاهم الملائكه طيبين)(النحل: 32).
و قوله تعالى: (الذين تتوفاهم الملائكه ظالمى انفسهم)(النحل: 28).
و قد جاء فى حديث الامام جعفر الصادق (عليه السلام) انه قال: «ان الله تبارك و تعالى جعل لملك الموت اعوانا من الملائكه، يقبضون الارواح، بمنزله صاحب الشرطه له اعوان من الانس يبعثهم فى حوائجه فتتوفاهم الملائكه و يتوفاهم ملك الموت من الملائكه مع ما يقبض هو و يتوفاها الله عز و جل من ملك الموت».
و هناك منكر و نكير اللذان يتوليان مهمه سئوال الميت و التحقيق معه، و ينضم اليهما- من خلال الدعاء- «رومان» فتان القبور، احد ملائكه القبر.
قال ابن الاثير، و فى حديث الكسوف: «و انكم تفتنون فى القبور»، يريد مساءله منكر و نكير، من الفتنه، الامتحان و الاختبار، و قد كثرت استعاذته من فتنه القبر و فتنه الدجال و فتنه المحيا و الممات، و منه الحديث: «فبى تفتنون و عنى تسالون»، اى تمتحنون بى فى قبوركم و يتعرف ايمانكم بنبوتى.
و قال السيد على خان فى رياض السالكين:
«القول بسئوال منكر و نكير و فتنه القبر و عذابه و ثوابه حق يجب الايمان به لما تواترت به الاخبار، بل هو من ضروريات الدين، و الاظهر الاسلم فى الايمان بذلك، ان يصدق بانها موجوده، و ان هناك ملكين او اكثر على الصوره المحكيه، و ان كنا لا نشاهد ذلك، اذ لا تصلح هذه العين لمشاهده الامور الملكوتيه. و كل ما يتعلق بالاخره فهو من عالم الملكوت، كما كان الصحابه يومنون بنزول جبرائيل و ان النبى (ص) يشاهده، و ان لم يكونوا يشاهدونه، و كما ان جبرائيل لا يشبه الناس، فكذلك منكر و نكير و رومان، فوجب التصديق بوجودهم و الايمان بسئوالهم و فتنتهم كما اخبر به المخبر الصادق».
و هناك الطائفون بالبيت المعمور فى السماء يسبحونه و يقدسونه و يعبدونه كما يطوف الناس فى الارض بالبيت الحرام، و هناك مالك الذى جاء ذكره فى الايه الكريمه: (و نادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال انكم ماكثون)،(الزخرف: 77)، و المتولون لامر النار معه الذين اشار اليهم القرآن الكريم فى قوله تعالى: (و قال الذين فى النار لخزنه جهنم)(غافر: 49). و قوله تعالى: (عليها ملائكه غلاظ شداد)(التحريم: 6).
و هناك رضوان خازن الجنان و خدمتها الذين يقومون بشوون اهلها بما يريد الله لهم، و ما انعم عليهم به من التكريم و التنعيم، و قد ذكر بعض العلماء، ان «الجنان المذكوره فى القرآن ثمان، و هى: جنه النعيم، و جنه الفردوس، و جنه الخلد، و جنه الماوى، و جنه عدن، و دار السلام، و دار القرار، و جنه عرضها السموات و الارض اعدت للمتقين، و من وراء الكل عرش الرحمن ذى الجلال و الاكرام». و لكن الظاهر ان هذه الاسماء لا تشير الى جنان متعدده بحيث يكون لكل منها اسم، بل هى اسماء متعدده، للجنه التى تشتمل على مواقع متعدده مما يجعل تعددها تابعا لتعدد تلك المواقع، و الله العالم.
و قد اشير الى خزنه الجنه بقوله تعالى:
(حتى اذا جاوها و فتحت ابوابها و قال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين)(الزمر: 73).
و هم الذين لا يعصون الله ما امرهم و يفعلون ما يومرون، من موقع الطاعه المطلقه التى لا يشوبها اى تفكير آخر و اهتزاز فى الشعور، بل هو التسليم فى كل شى ء، و ذلك هو قوله تعالى: (يا ايها الذين آمنوا قوا انفسكم و اهليكم نارا وقودها الناس و الحجاره عليها ملائكه غلاظ شداد لا يعصون الله ما امرهم و يفعلون ما يومرون)(التحريم: 6).
و هناك الذين يستقبلون المومنين فيقولون لهم: «سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار»، كما جاء فى قوله تعالى: (و الملائكه يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار)(الرعد: 24 -23).
و هناك الزبانيه، و هم ملائكه العذاب الذين اذا قيل لهم: (خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه)(الحاقه: 31 -30) ابتدروه سراعا و لم ينظروه استجابه لامر الله، و اسراعا فى تنفيذ ارادته، و قد جاء قوله تعالى: (و ما يعلم جنود ربك الا هو)(المدثر: 31).
و هناك العديد من الملائكه الذين لم نذكرهم و لم نعلم مواقعهم من الله و ماذا او كل اليهم من الامور و المهمات التى يعهد الله فيها للملائكه.
و هناك سكان الهواء و الارض و الماء، و من وكلهم الله بخلقه، حتى قيل: «ما من شى ء من خلق الله الا و ملك موكل عليه». فقد روى فى العلل باسناده عن ابى جعفر «محمد الباقر»(عليه السلام) قال: «ان الله عز و جل و كلهم- اى ملائكه- بنبات الارض من الشجر و النخل، فليس من شجره و لا نخله الا و معها من الله عز و جل ملك يحفظها و ما كان فيها، و لو لا ان معها من يمنعها لاكلها السباع و هو ام الارض اذا كان فيها ثمرها».
اللهم صل عليهم فى يوم القيامه، يوم تاتى كل نفس معها سائق يسوقها الى محشرها و شاهد يشهد عليها بعملها، حيث تتجلى الملائكه للناس فى صورهم و اشكالهم و اوضاعهم، فيتعرفون الى عظمه الله فى خلقهم عيانا بعد ان كانوا يعرفونه سماعا.
اللهم اكرمهم بصلاتك عليهم و زدهم منها، و طهرهم بها بما يزيد من طهارتهم فى ينابيع القدس و آفاق الروح، و عالم الغيب، و اذا كنت تصلى على ملائكتك و رسلك و تبلغهم صلاتك عليهم فاننا نسالك ان تصلى عليهم من خلال ما فتحت لنا من حسن القول فيهم، انك جواد كريم.