دعاوه فى الاعتراف و طلب التوبه
مفهوم الاعتراف لله تعالى:
للاعتراف فى اعماق النفس معنى التنفس فى الهواء الطلق، لان للخطيئه فى احساس الذات معنى الاختناق، اذا كان الانسان يحس بالمسووليه، و لا سيما اذا كانت امام الله الرحمن الرحيم الخالق الرازق المدبر، الذى لا بد ان يشعر الانسان بالخجل و الضيق و البشاعه الاخلاقيه فى خطيئته تجاهه، لانها تمثل مقابله الاحسان بالاساءه، و قد لا تقتصر المساله على الخطيئه فى الحاجه الى الاعتراف،
فهناك الاسرار الخفيه التى يملكها الشخص، فى ما يختص بحياته او فى ما يتصل بحياه الاخرين، مما قد لا يطيق الاحتفاظ به، لخطورته او لغرابته، بحيث يحس بالحاجه الى ان ينفس عن صدره بالحديث عنه، بشرط ان يكون من الذين يحفظون للاسرار سلامتها.
و اذا كان الاعتراف يمنح الانسان الراحه النفسيه، فانه يعبر عن ثقل الشعور بالذنب، ليتحول الى حركه داخليه للتحرر منه فى عمليه تصحيح للموقف، و تغيير للذات. و للاعتراف امام الله طعم خاص يختلف عن الاعتراف امام المخلوقين الذين قد يسى ء الاعتراف امامهم الى الكرامه الذاتيه فى الانسان، و يثير القلق فى امكانيه كشف الاسرار لمن لايحفظها، فى الحديث عنها للاخرين. اما الاعتراف لله، فانه لا يحمل معنى الفضيحه، و لا كشف السر، لانه العالم بالخفايا و الاسرار، و هو الذى يعلم خائنه الاعين و ما تخفى الصدور، فلا مشكله فى الاعتراف امامه، بل كل ما هناك، ان الانسان يتحول الى ما يشبه طفوله الروح فى معنى الحاجه الى الاحتضان الروحى المملوء بالرحمه و الحنان، عندما يتحرك اعترافه ليكون كنداء استغاثه من قلب جريح، و صدر مخنوق، تماما كما يلقى الطفل بنفسه فى احضان والديه ليجد الدف ء و الحنان و السلام، و ربما كان شعوره كطير مهيض الجناح يريد ان يرتفع الى الاعالى، فيلقى جناحه الى من يهبه القوه، من اجل ان تتجدد لديه اراده العلو نحو الافق الاعلى.
و هكذا يتمثل طلب التوبه كنتيجه طبيعيه للاعتراف باعتبارها وسيله للخروج من مازق الذنب، و خطوه فى تصحيح خط السير، و حركه فى تغيير الذات، و سبيلا للسمو بالنفس الى سماوات الروح و مواقع القرب من الله، حيث يطل الله عليها بالمغفره و الرضوان من عليائه فى آفاق القدس المطلق.
و فى هذا الدعاء، حركه لاهثه نحو الوصول الى المغفره، و اسلوب متنوع فى الاعتراف، و لهيب يتصاعد، و صراخ يعلو، و روح تهفو، و قلب يبكى، و عين تدمع، و قلق يتوزع معناه الخوف و الرجاء، و حيره تتردد فى الشعور، و علامات استفهام تبحث عن جواب، و ثقه بالله كما لو كان العذاب لا معنى له عنده، لانه اعظم و ارحم من ان يعذب الخاطئين من عباده، و خوف منه كما لو كانت المغفره شيئا لا رجاء فيه..
انه الدعاء الذى يبرز الانسان فيه بكل ضعفه، امام خالقه بكل قوته.. و لكن بكل رحمته، فكيف نلتقى به؟
اللهم انه يحجبنى عن مسالتك خلال ثلاث، و تحدونى عليها خله واحده، يحجبنى امر امرت به فابطات عنه، و نهى نهيتنى عنه فاسرعت اليه، و نعمه انعمت بها على فقصرت فى شكرها، و يحدونى على مسالتك... تفضلك على من اقبل بوجهه اليك، و وفد بحسن ظنه عليك، اذ جميع احسانك تفضل، و اذ كل نعمك ابتداء.
مشكلتى المعصيه و عدم الشكر:
ما هى المشكله- يا رب- فى موقفى الخائف الوجل الذى لا يملك التقدم خطوه نحوك ليطلب منك عفوك و رضوانك؟ و ما هو الحل الذى يدفعنى لمواجهه المشكله بقوه و واقعيه و تفاول؟
ان مشكلتى تتلخص فى نقاط ثلاث:
الاولى: انك امرتنى بامرك الذى اردت لى ان افعله فى كثير من الامور و المواقف، و لكنى خالفتك فى ذلك كله او فى بعضه و تراجعت عن الامتثال فيه، و ابطات عن الاستجابه لك.
الثانيه: انك نهيتنى بنهيك الذى اردت لى ان اتركه فى الافعال و الاقوال و المواقف و العلاقات التى حرمتها على... و لكنى اقتحمت كل ذلك و اسرعت اليه بفعل شهوتى و مطامعى و انانيتى.. و تمردت عليك.
الثالثه: انك انعمت على فى مختلف مجالات حياتى بانواع النعم، حتى كنت احس بها تغمرنى بالسرور و السعاده و الراحه و الطمانينه، كما لو كنت الاثير عندك و الحبيب اليك، و لكنى نسيت ذلك كله، و غفلت عنك، فلم افكر بمصدر النعمه و خالقها، بل فقدت الاحساس بها و بقيمتها، لانى وجدتها مالوفه لدى ككل الاشياء المعتاده فى حياتى التى لا تثير فى اى شعور بالاهتمام.. و هكذا لم اشكر كل هذه النعم، و لم تنفتح روحى على فضلك و عطائك من خلالها.
هل تبقى لى الجراه- بعد ذلك كله- ان اقف بين يديك، او اسالك بعض ما احتاجه من القرب اليك؟
كيف يرتفع وجهى اليك و قد سودته الذنوب، و كيف تمتد يدى اليك، و قد شلتها الخطايا، و كيف يشرق فى عينى نور التطلع اليك، و قد حاصرتها الظلمات؟...
كيف افكر بالارتفاع اليك، و ها انا فى حضيض الاثم سقطت، او كيف اومل الدنو منك، و ها انا بكل او ضاعى بعيد عنك؟ تلك هى المشكله، فاين الحل، و ذلك هو المازق، فاين المخرج؟..
اما الحل، فهو ان شانك التفضل على من اقبل بوجهه اليك، بعد ان كان قد صرفه عنك وقتا طويلا فى ادبار الطاعه و اقبال المعصيه، و على من وفد بحسن ظنه عليك بعد ان اسرف على نفسه، فلم يترك ذنبا الا و فعله، و لم يدع واجبا الا و تركه، و لم يتذكر نعمه الا و كفر بها.. ثم فكر انك انت الرب الغفور الرحيم الذى لا تخيب ظن من احسن ظنه بك، فقبلت و فادته، و اكرمت مسالته.
لم يكن احسانك رد فعل لاحسان المحسنين، و لم تكن نعمك جزاء لسئوال السائلين، بل كان احسانك منذ انطلق الوجود تفضلا، فقد كان الوجود كله بعضا من تفضلك، و كانت نعمك ابتداء، فقد اعطيت الخلق كلهم ما لم يسالوك و ما لم يستحقوه.
و فكرت فى ذلك كله، و ادركت ان بامكانى ان اسالك بالحاح و استعطفك باصرار، و افتح قلبى الذى بقى فى طهارته، لانك فى عمق نبضاته و خطواته توحى له بالنقاء، بالرغم من كل رجس الذنوب. و لذلك وقفت امامك.. و ها انا ذا بين يديك...
سبحانك لا اياس منك و قد فتحت لى باب التوبه:
قد يحس الانسان بالضعف عندما يجد نفسه مدفوعا الى الاستسلام، و قد يشعر بالذله عندما يقف موقف السائل البائس المعيل، و لكنى- يا رب- اشعر بالعنفوان يملا كيانى و انا واقف بباب عزك وقوف المستسلم الذليل، لان الاستسلام للخالق و التذلل له، لن يكون ضعفا، باعتبار ان ذلك هو الموقف الذى تفرضه طبيعه الامور فيما هى العلاقه بين الخالق الذى اعطى الوجود و حرك كل عناصره، و بين المخلوق الذى كان ضعفه امام خالقه اساسا للمعنى العميق للقوه فى ذاته، لان مدد القوه كان منه كما هو مدد الوجود.
و اذا كنت اسالك- فى حياء- سئوال البائس الذى اثقلته مسوولياته، فان ذلك يمثل العزه كل العزه، لانك- يا رب- الذى اخرجتنى الى الدنيا بائسا ثم حولت حياتى الى نعيم، فمنك بوسى و منك نعيمى، و انت الذى تفيض الخير كله على المخلوقات كلها، و تمنحها العز من عندك، فاولياوك بعزك يعتزون، و انت الذى تمنحهم شرف ان يسالوك، كما تمنحهم القوه فى استجابتك لهم. اننى اشعر- يا رب- بالسعاده عندما استسلم لك، فى الوقت الذى يتحول فيه استسلامى هذا الى تمرد على طغيان الشيطان من الانس و الجن.
و احس بالعزه فى هذا الموقف الذليل بين يديك، لاننى استمد احساس القوه منك لاجابه به كل الطغاه الذين يفرضون الذل على الضعفاء من خلال اخفاء عقده الذل فى انفسهم.
اننى قادم- يا رب- لاعبر لك عن الشعور بالخزى و العار مما اسلفته من المواقف التى لا تشرف صاحبها، فانا مقر لك بانك احسنت الى، و فتحت لى باب الهدايه لا نطلق فى طريق الطاعه، و لكنى اكتفيت من ذلك بترك معصيتك من دون ان انفتح على مواقع امرك فى ما تحبه و ترضاه، فلم تكن المساله استسلاما مطلقا يفرض على الانسان التسليم لله بكل شى ء من امتثال اوامره و اجتناب نواهيه، بل كانت مساله تسجيل موقف فحسب.
و كنت فى ذلك كله تغدق على من احسانك و لطفك و مننك الكثير الكثير، بعيدا عما اذا كنت شاكرا و مقصرا، مطيعا او عاصيا.
اننى لم اكن العبد الصالح الشاكر لربه، بل كنت مثال العبد الابق الكافر بنعمتك، و انا الان فى موقع المعترف المقر بكل هذا الماضى الشقى المتمرد على ربه، و ليس لى الا ان تتقبل ذلك منى بعفوك و مغفرتك، فهل ينفعنى يا الهى اقرارى عندك بسوء ما اكتسبت، و هل ينجينى منك اعترافى لك بقبيح ما ارتكبت، لان ذلك يمثل التعبير الصادق عن الشعور بالندم العميق، و الرغبه فى البدء بصفحه بيضاء و جديده، و مستقبل ايمانى مشرق، او انك رايتنى قد وصلت الى الخطوط الحمراء التى لا تريد لاحد ان يتجاوزها، لانها تمثل مواقع سخطك و مقتك، فهل اوجبت لى فى مقامى هذا سخطك، فلا مجال لكل مشاعر المحبه الجديده ان تزيل غضبك؟ او لزمنى فى وقت دعائى مقتك، فابغضتنى لما رايته من سوء سريرتى و قبح عملى، فلم تبدل كل ابتهالات الدعاء موقفك منى؟
اننى اتساءل و اتعذب و اعيش الحيره القاتله الخانقه، و لكنى لا افقد الامل الكبير، لانك الرب العظيم الذى تعالى عن كل معنى للحقد و للانتقام، فلن يزحف الياس الى قلبى، و كيف يكون ذلك و انت الذى فتحت لى باب التوبه بكل سعته، فلا يضيق عن احد، مهما كانت درجه معصيته و انت الذى تقبل التوبه عن عبادك، و تعفو عن السيئات، و تحب التوابين، و قد خاطبت عبادك الذين اسرفوا على انفسهم فقلت لهم: (لا تقنطوا من رحمه الله ان الله يغفر الذنوب جميعا انه هو الغفور الرحيم)(الزمر: 53).
انا العبد الذليل الذى عظمت ذنوبه، و ادبرت ايامه:
سابقى- يا رب- مشدودا اليك بكل عقلى و قلبى و دمى و اعصابى و مشاعرى، محدقا بالافاق العليا من رحاب عظمتك، موملا لعفوك مهما بلغت ذنوبى من الضخامه و الكثره، متوسلا اليك بكل الكلمات الخاشعه، و الاساليب الخاضعه التى تفتح لى باب الوصول اليك، و القرب منك. انا العبد الذليل الذى ظلم نفسه بالمعصيه، و اذلها بالابتعاد عنك، فاوقعها فى جحيم غضبك و سخطك، و عرضها للهلاك الابدى فى نارك.
انا العبد المستخف بحرمه ربه، فلم يدرك حقوقه عليه و عظمته فى ذاته، و لزوم طاعته من عباده، و لم يقدره حق قدره، و امتد فى خط الانحراف بعيدا حتى اصبحت ذنوبه كالجبال امام عينيه من ضخامتها و كثرتها، و اقتربت ايامه من النهايه فى ادبار الحياه فى جسده.
اللهم انت الملاذ، و اليك المهرب:
ثم واجه الموقف الصعب، فيها هى الفرصه بدات فى التناقص، فقد لا يبقى مجال للتعويض عما سلف، بعد ان بدات مده العمل فى الانقضاء من خلال تساقط ايامه بين يدى آخرته يوما يوما، كما هى الاوراق المتناثره فى ايام الخريف، و بلغ عمره النهايه، و كاد ان يصل الى الغايه الاخيره، فما هو الحد الفاصل بين الموت و الحياه؟..
و ها هو بين يديك، وجها لوجه، فلا مجال له الا باللجوء اليك، و لا موقع لديه فى الهروب عن ساحاتك، لانك انت الرب الذى يملا الوجود كله، و يحتوى الساحات كلها، فانت الملاذ، و اليك المهرب.
انه الان يوكد رجوعه اليك، و يقدم بين يديك توبته الخالصه التى تتمرد على كل الماضى بالرفض، و تنفتح على كل المستقبل بالاستقامه و التجدد.
ان قلبه مفتوح للافكار الطاهره و المشاعر النقيه، بكل طهر المحبه لك، و نقاء الايمان بك.. انه يقدم لك هذا القلب فى اول لقاء بعد الانابه.
اما صوته، فقد بدا يخفت و يرق فى اجواء الخضوع و التذلل، و يفقد قوته تدريجيا كلما شعر بخطوره الواقع الذى يقف فيه، انه لا يستطيع ان يستقيم فى وقوفه امامك، فها هو يخضع و يخفض قامته اجلالا لك فى انحناء يوحى بانحناء الاراده، و ها هو لا يملك ان يرفع راسه بين يديك خضوعا و تذللا و خشوعا لك، قد ملات خشيتك كل كيانه، فاهتزت كل مواقع القوه فيه، و توترت اعصابه فى اطباق الخوف عليه، و ارتجاف الرهبه فى داخله، حتى عاد يرتعش و يهتز، فلا يملك التماسك فى موقفه، و سالت الدموع من عينيه حتى اغرقت كل وجهه، تعبيرا عن المحبه الممزوجه باللوعه، و الشوق المغسول بالخوف.
و بدات الكلمات الصارخه الصائحه الملهوفه تدعوك بما يوحى بالصراخ اللاهث فى صوته الذى يستعجل الوصول اليك، فى تعبير متنوع يستعطفك و يهفو اليك.
يدعوك ب«يا ارحم الراحمين» فى انفتاح واسع فى وعيه على آفاق رحمتك التى وسعت كل شى ء، و لم يبلغ مداها شى ء، و هذه هى الكلمه التى تدفع الى اقبالك عليه و نظرك اليه.
و «يا ارحم من قصده المسترحمون» الذين يتطلعون الى كل مواقع الرحمه ليحصلوا على الرحمه الحانيه، فلم يجدوا اكثر رحمه منك، فاندفعوا اليك مره بعد اخرى فى عمليه الحاح و سئوال طويل.
«و يا اعطف من اطاف به المستغفرون» و احاطوا به من كل جانب، فلم يمل عنهم الى جهه الا و وجدهم يتلفتون اليه من تلك الجهه، لانهم و جدوا فيه العطف الذى يفيض عليهم الحنان حتى تمتلى ء كل نفوسهم منه، و لم يجدوا مثله لدى غيره، فاقبلوا عليه مستغفرين من كل ذنوبهم، و هم يضمرون فى نفوسهم ان العفو منه قريب.
«و يا من عفوه اكثر من نقمته»، لانه العفو الغفور الذى يحلم على العاصين، و يتجاوز عن المنحرفين و يقودهم الى مواقع الغفران من خلال الفرصه المفتوحه على التوبه فى اكثر من موقع، لان النقمه عنده ليست شعورا يتاجج بالغضب الذاتى و الانفعال المزاجى، كما هى عند المخلوقين، بل هى فعل محدود تفرضه الحكمه فى حدود معينه لا تتسع كثيرا فى حركه فعل، بل تبقى فى دائره ضيقه.. لتكون كل الدوائر الاخرى للعفو.
«و يا من رضاه اوفر من سخطه» لان رحمته وسعت كل شى ء، فهو الذى يعرف مواضع الضعف فى عباده، التى تدفعهم الى المعصيه، و وساوس الشيطان الذى يحاصرهم بوسائله الكثيره.. و بذلك منحهم العذر فى اكثر من مجال، لان معصيتهم لم تكن حاله ثابته فى العمق، بل كانت حاله طارئه فى الزمن.
«و يا من تحمد الى خلقه بحسن التجاوز»، فطلب اليهم ان يحمدوه و يذكروه من خلال الصفح الجميل الذى يملا قلوبهم بالامتنان، و حياتهم بالتوازن، فلم يطرد احدا منهم عند رجوعه اليه، مهما كانت درجه بعده عنه، و ليس بين الله و بين احد منهم الا ان يشهده على قلبه، انه راجع اليه بروحه و عقله و جسده، حتى لو تكرر البعد و تكرر الرجوع، و قد جاء فى القرآن الكريم قوله تعالى:(و من يعمل سوءا او يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما)(النساء: 110).
و جاء عن النبى محمد (ص) انه قال:«ان الله لا ينام و لا ينبغى له ان ينام، باسط يده لمسى ء النهار ان يتوب بالليل، و لمسى ء الليل ان يتوب بالنهار». و عن الامام محمد الباقر (ع) انه قال:«كلما عاد المومن بالاستغفار و التوبه عاد الله عليه بالمغفره، و ان الله غفور رحيم يقبل التوبه و يعفو عن السيئات».
«و يا من استصلح فاسدهم بالتوبه»، فلم يغلق عنه باب استصلاح نفسه، بل فتح له كل الابواب لاعاده بناء ذاته من جديد على اساس قاعده الايمان و العمل الصالح، و حذره من الياس و دعاه الى الانفتاح على المستقبل المشرق من خلال انفتاحه على الله من دون حاجه الى مقدمات شكليه، و اوضاع رسميه، فيكفى ان يعزم على ان يبدا صفحه جديده، و يغلق الصفحه القديمه، فى عمليه ندم على الماضى الاسود، و اراده للمستقبل الابيض، ليتوب الله عليه، فيعود انسانا جديدا لا علاقه له بذلك الانسان المنحرف القديم، لان الله لا يريد لتاريخ الانسان ان يتحول الى عقده فى نفسه، بل يريده ان يكون عبره لعقله و روحه، و لذلك كانت التوبه التى اتسعت لكل الذنوب، هى الخط الفاصل بين الماضى و الحاضر المنفتح على المستقبل، و تلك هى حكمه الله فى اعتبار التوبه الوسيله المثلى للتغيير العملى فى خط الصلاح.
«و يا من رضى من فعلهم باليسير، و يا من كافى قليلهم بالكثير»، فقد كلفهم بالقليل من الاعمال التى لا تبتعد عن قدرتهم، و اعطاهم من نعمه و من ثوابه اضعاف اضعاف ذلك، حتى و لو اردنا عقد مقارنه بين العمل و الجزاء، لراينا ان الجزاء يتجاوزه بدرجه كبيره جدا لا تثبت امام الحسابات على اساس التبادل، لا سيما اذا عرفنا ان العمل محدود منقطع بحدوده، بينما ثواب الله مستمر غير محدود. و قد جاء فى القرآن الكريم قوله تعالى:(للذين احسنوا الحسنى)(يونس: 26). و قوله تعالى:(من جاء بالحسنه فله عشر امثالها)(الانعام: 160).
«و يا من ضمن لهم اجابه الدعاء» فقال فى كتابه:(ادعونى استجب لكم)(غافر: 60) و قال:(و اذا سالك عبادى عنى فانى قريب اجيب دعوه الداعى اذا دعان)(البقره: 186).
«و يا من وعدهم على نفسه بتفضله حسن الجزاء»، فقال:(و الله عنده حسن الثواب)(آل عمران: 195).
تلك هى كلماتى الصارخه الملهوفه المتطلعه الى عفوك و رضوانك بما انت اهله من ذلك كله.
ثم انى- يا رب- اسالك من موقع السنه الواقعيه العمليه فى ما عاملت به خلقك الذين عصوك فغفرت لهم، فهل انا اشد معصيه منهم لترفض غفران ذنبى، او الذين كانوا فى موقع اللوم فى انحرافهم عنك، فاعتذروا لك فقبلت عذرهم، فهل انا الاكثر ذنبا بما تلوم به المذنبين على افعالهم السيئه فلاتقبل اعتذارى عما بدر منى، او الذين ظلموا انفسهم بالتمرد عليك فعدت عليهم بالمغفره، فهل انا اشد ظلما منهم فلا تعود على بالرضوان؟!
اننى لا انكر- يا رب- خطوره ذنبى، و شده انحرافى، و سوء عملى، و لكنى- يا رب- ادرك ان هناك الكثير من عناصر التخفيف التى يمكننى الحصول عليها من خلال رحمتك و لطفك.
اللهم انى اتوب اليك توبه نادم:
لقد اعلنت لك- يا رب- فى موقف الاعتراف، عن طبيعه الحاله النفسيه التى تهيمن على كيانى، و انا فى هذا الموقف العبودى التعبيرى عن الخوف و الرجاء، و الندم و الامل و الحزن و السرور.
و ها انا- يا رب- اصل الى النهايه الحاسمه للموقف، فلست- هنا- مجرد شخص يصرخ و يتاوه و يرتعش و يبكى، ليستدرج العطف و الحنان، كحاله ذاتيه تجتذب الاحساس الحميم، و لكنى انسان يريد ان يتجدد و يسمو و يعيش روحيه الارتفاع الى الاعالى فى مواقع القرب منك، حيث يتحول القدس الغارق فى ينابيع الضياء الى هاجس فى الروح و الوجدان و الضمير، فى انطلاقتى الروحيه اليك.
اننى اريد ان اجتاز الحد الفاصل بين حياه كنت فيها هاربا منك، و بين حياه جئت اليها هاربا اليك، و انفتح على آفاق الطمانينه و الامان بدلا من آفاق القلق و الفزع.
انى اريد ان اتوب اليك، و لكن، ما هى طبيعه الحاله الداخليه فى احساسى بالتوبه؟ و ما هى تصوراتى لمجد الربوبيه فى ذاتك، و صفات الرحمه فى عظمتك؟ و ما هى التزاماتى فى هذا الموقف الحاسم؟..
اننى اتوب اليك توبه نادم على ما فرط منه، تتمزق الحسرات فى نفسه، و تحترق اللوعه فى قلبه، و تتوتر الالام فى اعصابه، و تتساءل مشاعره، كيف حدث ما حدث؟ و لماذا كانت الغفله الخانقه، و كيف غاب النور الالهى عن وعى المستقبل لدى؟ و ماذا عن الاستغراق فى الشهوات من دون انتباه للالام التى تفرضها النتائج السلبيه؟ و كيف اخلدت الى الارض و اثبت هواى و عصيت خالقى (الذى خلقنى فهو يهدين و الذى هو يطعمنى و يسقين و اذا مرضت فهو يشفين و الذى يميتنى ثم يحيين)(الشعراء: 81 -78).
تلك هى افكار الندم التى تتحول الى حاله من الاشفاق على النفس فى ما اجتمع عليها من الذنوب الكثيره، و الى احساس بالحياء مما وقعت فيه من الخطايا عندما اقف عاريا من كل اثواب الطهاره و النقاء فى مواقف العصيان.
و لكنى- مع ذلك كله- اتطلع اليك فماذا ارى؟ و ما هى تصوراتى فى وعى مقام الالوهيه فى رحمتك، و مجد الربوبيه فى عظمتك؟ فقد يكون ذنبى عظيما، و لكن مساله العفو عند الناس قد ترتبط بالحاله النفسيه للمعتدى عليه، اما عندك فانها تتصل بالحكمه و الرحمه و اللطف الكبير، الامر الذى لا قيمه معه لحجم الذنب، بل القيمه كلها للمعنى الذى يختزنه العفو عن الذنب، فلا مشكله فى العفو عن الذنب العظيم، لان الذنوب كلها تصغر لديك، فلا تعظم مغفره الذنب عندك، مهما بلغ، و لا يصعب عليك التجاوز عن الاثم الجليل او عن استيعاب الجنايات الفاحشه- و هى كبائر الذنوب- فالصغير و الكبير، و الفاحش و العادى عندك بمنزله سواء فى دائره رحمتك، اذا كانت الحكمه تقتضى ذلك، و اذا فكرت فى القاعده التى تمنح فيها محبتك لعبادك، فقد اجد انك تكره المستكبرين عليك و تحب التاركين لها، و تبعد المتمردين على طاعتك، و تقرب المستغفرين لك و التائبين من ذنوبهم.
و هكذا عرفت ان احب عبادك من ترك الاستكبار عليك و جانب الاصرار و لزم الاستغفار، لان هذه الصفات تمثل المسووليه فى حركه العبوديه فى الذات الانسانيه، و تدلل على الاحساس بعظمه الالوهيه، و الخوف من التعرض لغضبها و سخطها، و الرغبه فى الحصول على رضاها و محبتها، مما يبعث على الاستقامه فى الخط، و الانفتاح فى الايمان، و العمق فى الالتزام.
و هذا الذى يجعل عبادك فى موقع المحبه لك كما يشرفهم بمحبتك لهم.
و انا الان- يا رب- اعلن لك البراءه من الاستكبار فكرا و احساسا و عملا و موقعا، لا عيش- بدلا من ذلك- التواضع و الخشوع و السجود الروحى حتى الانسحاق و الذوبان فيك، و الابتهال الدائم اليك فى كل الامور، و اعوذ بك من الوقوع فى الاصرار على الخطايا الخفيه و المعلنه، و الظاهره و الباطنه، لابتعد عنها فى كل مواقع حياتى، ادراكا منى لنتائجها المهلكه التى تبعدنى عنك و عن رحمتك.
و استغفرك لكل ما عشت فيه من التقصير فى عبادتك و الاستهانه باوامرك و نواهيك، و اللامبالاه فى رضاك و سخطك، لاعود من جديد، فاكون الجاد فى التعبد اليك باخلاص العباده، و المتحرك فى اطاعه اوامرك و نواهيك بكل دقه و تركيز، و استنفر كل مشاعرى و اهتماماتى لتكون حياتى كلها رحله الى مواقع القرب اليك، و استعين بك على ما قد اعجز عنه من التزاماتى كلها، لاننى لا املك القوه فى ارادتى و عملى الا من خلال قوتك.
اللهم اغفر ذنبى، و اقض حاجتى، و آمن خوفى:
يا رب، ان كل همى ان اخرج من الدنيا آمنا راضيا مرضيا عندك، مطمئنا للموقع الذى اتطلع اليه فى الدار الاخره، و لذلك فانى اريد ان اتخفف مما يجب على لك من الحقوق الخاصه و العامه، مما كلفتنى به و قصرت فيه، فهب لى ذلك كله حتى اكون برى ء الذمه منه، فلا احاسب على شى ء منه من قليل او كثير، و اسالك العافيه من النتائج السيئه و العواقب الوخيمه التى توجب لى عقابك من خلال التقصير و التفريط فى مسوولياتى، و ذلك بان تبعد كل ذلك عنى مما يواجهنى منه يوم القيامه، و استجير بك مما يخافه المسيئون من العذاب الاليم فى نار الجحيم، فانك الغنى بالعفو لعبادك الخاطئين، و انت المرجو للمغفره، المعروف بالتجاوز، و ذلك من خلال ما وصفت به نفسك بانك العفو الغفور الرحيم.
انها حاجتى المهمه التى تعلو على كل حاجه لانها تتصل بقضيه المصير، و هى الحاجه الوحيده التى لا املك تقديمها لاحد غيرك، لانك- وحدك- ولى العفو و الرحمه، و انت الغافر للذنب و لا غافر غيرك، سبحانك ان يكون هناك لك شريك فى كل شوون عبادك.
و اننى لا اخاف على نفسى غيرك، لانك المالك للامر كله فى الدنيا و الاخره، فاعطنى الامان من عذابك (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا و الامر يومئذ لله)(الانفطار: 9).
و هب لى التوفيق لان اكون التقى فى فكرى و شعورى و عملى، حتى اكون المغفور له على اساس ذلك، فانك اهل التقوى الذى يمنح المتقين محبته و ثوابه، و اهل المغفره الذى يفيض على خلقه التائبين بمغفرته.
و اخيرا، اننى المبتهل دائما اليك، الحامل لك دعائى فى الامور كلها، لاكون الموحد فى قضاياى الصغيره و الكبيره، فلا اتطلع فى الحصول عليها الى غيرك.
ان لى يا رب اكثر من حاجه فى الدنيا و الاخره... فاقض لى حاجتى.
و ان لى طلبات اتحرك فى سبيل انجاحها و الحصول عليها... فانجح طلبتى.
و ان ذنوبا تثقل حياتى، و تهدد آخرتى... فاغفرها لى، و ان لنفسى مخاوف على مستوى قضايا المصير... فاحسن خوف نفسى.
اننى اسالك ذلك كله، و لا اسال غيرك، لانك وحدك القادر على كل شى ء، و ذلك عليك يسير، فلا يصعب عليك شى ء من ذلك كله.
اللهم استجب لى يا رب العالمين.