دعاوه فى طلب الحوائج الى الله تعالى
الحاجه الى الله تعالى:
فى المنهج التربوى الاسلامى، فى خطه الفكرى و الروحى، تاكيد على ان يعيش الانسان توحيد الله فى كل شى ء، فلا يبقى التوحيد مجرد عقيده فى الفلسفه الالهيه الخاضعه للحسابات التحليليه الدقيقه، و البراهين العقليه العميقه، بل يتحول الى فكر يرى الله وراء كل شى ء فى الوجود و امامه، و الى شعور يتحسس من خلاله نعم الله التى تتصل بحياته، فيكون لله حضور يومى مستمر فى كل تفاصيل حياته اليوميه، بحيث يرى انه يتدخل فى كل شى ء و يدبر كل شى ء، و هذا ما توحى به الكلمه الماثوره «لا حول و لا قوه الا بالله العلى العظيم» كما يجد الله فى طعامه و شرابه و مرضه و شفائه (و الذى هو يطعمنى و يسقين و اذا مرضت فهو يشفين)(الشعراء: 80 -79).
انه الايحاء الداخلى بالهيمنه الالهيه المطلقه على كل الامور، فلا بد للانسان من ان يتوكل عليه و يستعين به و يلجا اليه فى كل شوونه، لانه- وحده- القادر على رعايته و حمايته و قضاء حاجاته، من خلال قدرته على كل شى ء فى الوجود، و هو مالك السماوات و الارض و ما بينهن و ما فيهن فلا يملك احد معه شى ء، لان الناس يملكون ما ملكهم، و يعطون ما اعطاهم، فانه المالك لهم و لما يملكون، و هو المعطى من خلالهم، باعتبارهم الادوات التى يحركها كيف يشاء، و يلهمها ما يشاء، و يوجهها الى حيث يشاء، و هو مقلب القلوب و الابصار.
و هكذا يفرض هذا المنهج على الانسان، ان لا يتجه بقلبه الى المخلوقين فى حاجاته التى تلح عليه، و لا يتوجه اليهم بالسئوال باعتبارهم القادرين على توفير حاجاته و اجابه مسائله، بل لا بد له من التوجه لله بكل اموره، و الاعتماد عليه فى حل مشاكله، و اليقين بانه- وحده- المهيمن على الامر كله، و الغنى عن كل شى ء، بينما يتساوى الناس جميعم بانهم الفقراء اليه فى كل وجودهم، فهم الواقفون على بابه من حيث طبيعه وجودهم، حتى لو لم يطرقوا بابه، و هم السائلون له حتى لو لم ينطقوا بالسئوال، لان لسان حاجاتهم الموجوده لديه هو الناطق الحى بذلك.
و ليس الفرق بين مخلوق و مخلوق، الا ان هذا حصل على عطاء الله قبل ذاك، او ان الله اراد لاحدهم ان يكون الوسيله التى يريد الله ان يرزق الاخرين من خلال ما اعطاه، تبعا للنظام الكونى الذى يربط بعض الموجودات ببعض، و يضع رزق بعضها لدى البعض الاخر، من دون ان يكون هناك غنى فى الذات، او قدره فى الوجود.
و هذا الذى يوحى به هذا الدعاء الذى يثير- فى بدايته- الاساس الفكرى الايمانى لانطلاق الحاجات كلها و رجوعها الى الله، و لرفض تحركها فى اتجاه السئوال للمخلوقين، لتبقى المساله مساله اداه يسخرها الله لا يصال رزقه كما هى الاداه التى يحركها الله لايجاد عباده فى عمليه بقاء النسل من خلال ما اودعه فى قانونه الطبيعى من الوسائل لذلك.
و هكذا نلاحظ ان الانفتاح على الله وحده فى طلب الحوائج، لا يعنى العزله عن السنه الكونيه او الاجتماعيه فى ارتباط الحاجات الانسانيه بالعلاقات الطبيعيه للناس، بما يملكه هذا من مال او قوه او علم او غير ذلك مما لايملكه الاخر، بل يعنى الاخلاص لله فى الرجوع اليه فى ذلك كله من خلال الفكره التى تجعل الرزق من الله، بالوسائل الخاصه التى وزعها على الكون فى تدبيره للكون كله.
و هناك نقطه مهمه تتصل بالاحساس بالعزه كصفه حيويه من صفات الانسان، و بالحريه كعنصر من عناصر الحركه فى شخصيته، فان الحاجه تستعبده من خلال مضمونها الواقعى الشعورى الذى يفرض نفسه على الذات، فيجعلها خاضعه بشكل طبيعى لمن يملك تلبيه الحاجه، تبعا لضغطها على الواقع.
فاذا كان الانسان مشدودا الى المخلوقين فى حاجاته، بحيث يشعر بان حياته مربوطه بما لديهم من مال او جاه او قوه، فانه لا بد ان يكون خاضعا لهم بما يشبه العبوديه المسحوقه فى ارادتها، باعتبار ان حياته العاديه لا تستقيم بدونهم، فيفقد بذلك توازن تفكيره و حريه حركته و عزه نفسه.
اما اذا كان منفتحا على الله فى حاجاته، بحيث يسلم ان الله هو الذى يعطى و يمنع، و هو الذى يبتلى و يعافى، و يقوى و يضعف، و ان المخلوقين لا يملكون المنع اذا اراد الله العطاء، و لا يستطيعون العطاء اذا اراد المنع، و لا يملكون القدره على الضر و النفع الا باذنه، فان المساله تختلف، لان حاجته الى الله جزء من معنى وجوده و نتيجه طبيعيه من نتائج عبوديته له، فلن يفقده ذلك الشعور بعزته، و لا الاحساس بحريته، لان العزه و الحريه ليستا امام الخالق، فهو العبد الذليل بين يديه، بل هما صفتان متحركتان فى الانسان امام المخلوق، الذى تتاكد معه ذاتيه هاتين الصفتين فيه، لان علاقته بحاجته هى جزء من تدبير الله لا من تدبيره، فهو مسوق- بوجوده و نظام الكون حوله- الى ان يعطى الاخرين مما اعطاه الله و ياخذ منهم ما اعطاه الله لهم.
و هكذا يوكد التوحيد الحركى فى مفردات الحياه فى حاجاتها معنى الحريه و العزه فى الانسان المومن، فلا تكون المساله مجرد حاله فكريه روحيه فى الفلسفه و العرفان، بل تكون حاله حركيه عمليه فى الذات و فى الواقع.
اما دور الدعاء فهو تاكيد الحاله الشعوريه فى عمليه الايحاء المتنوع للذات بكل تفاصيل هذا المفهوم الايمانى، بحيث تتساقط المفردات الروحيه الفكريه فيه على الفكر و الشعور كما تتساقط قطرات المطر على الارض الميته، قطره قطره، فتنبعث فيها الحياه عندما تختزن الرى كله فى الاعماق ليتحول الى جنات تجرى من تحتها الانهار.
اللهم يا منتهى مطلب الحاجات، و يا من عنده نيل الطلبات، و يا من لا يبيع نعمه بالاثمان، و يا من لايكدر عطاياه بالامتنان، و يا من يستغنى به و لا يستغنى عنه، و يا من يرغب اليه و لا يرغب عنه، و يا من لا تفنى خزائنه المسائل، و يا من لا تبدل حكمته الوسائل، و يا من لا تنقطع عنه حوائج المحتاجين، و يا من لا يعنيه دعاء الداعين.
تمدحت بالغناء عن خلقك و انت اهل الغنى عنهم، و نسبتهم الى الفقر و هم اهل الفقر اليك، فمن حاول سد خلته من عندك، و رام صرف الفقر عن نفسه بك، فقد طلب حاجته فى مظانها، و اتى طلبته من وجهها، و من توجه بحاجته الى احد من خلقك، او جعله سبب نجحها دونك، فقد تعرض للحرمان و استحق من عندك فوت الاحسان.
يا منتهى مطلب الحاجات:
يا رب، قد تتعثر الحاجات فى الطريق، فى تجاربنا التى نتحرك بها من اجل تحقيق ما نريده، او فى تجارب الاخرين الذين نستعين بهم للحصول على ما نرغب، فنقف عاجزين امام العقبات التى تعترضنا، و الصعوبات التى تضغط علينا، و يقف الاخرون الذين كنا نظن انهم اكثر منا خبره، و اشد قوه، و اوسع افقا، فنجدهم فى موقف العاجز الذى لا يملك حولا و لا قوه، لان العناصر الضاغطه اكثر من الطاقه، و ابعد من القدره.
و نبقى حائرين، و قد نتحول الى يائسين، لان العجز هو الفرصه التى يستغلها الشعور اليائس لتسقط الحياه امامها بكل ما لديها من تطلعات و احلام.
و لكن الحاجات لا تياس، فلسنا و لا الاخرون، الفرصه الوحيده فى تحقيقها، فهى تتطلع الى خالقها لتتوسل اليه و تطلب منه ان يمنحها الوجود، كما منح الوجود لكل الحياه، و هكذا ترتفع و ترتفع حتى تصل اليك، لان اليك المنتهى، حيث القدره كل القدره التى تتصاغر امامها العقبات، و تتساقط عندها الصعوبات، و يصبح كل شى ء ممكنا، و يتحول الممكن الى حقيقه.
«و يا من عنده نيل الطلبات»، لانك تملك كل عناصرها و ظروفها و مواقفها و شروطها و ابعادها، و لانك الكريم الذى لا يمنع احدا عطاءه، و لا يخيب طالبا فى اجابه سوله، بينما يقف الاخرون عاجزين عن تحقيقها امام حدود قدرتهم، و يبخل الباخلون بما لديهم عن مد يد العون للطالبين، من خلال خوفهم من الفقر، او استسلامهم للعقده المتحكمه فى حياتهم الذاتيه فى مواقع الانانيه الخانقه.
فاين يذهب الذاهبون، و اين يتوجه الطالبون؟
«و يا من لا يبيع نعمه بالاثمان»، فكل نعمه كرم و تفضل فى امتداد الرحمه و اتساع القدره، فالعطاء سر ذاتك- و التفضل معنى عظمتك.. فقد خلقت الخلق، و كانوا عدما، و قد رزقتهم و كانوا فقراء، و قد قويتهم و كانوا ضعفاء، و قد اطعمتهم و كانوا جياعا، و سقيتهم و كانوا عطاشى، و حركتهم و كانوا عاجزين، و ماذا يملكون؟ و انت الذى ملكتهم ليقدموا الثمن عوضا عن نعمتك، و ما قدر ما يملكون من ذلك كله، و ما هى حاجتك اليه و انت الغنى بذاتك؟ انه العطاء الذى يهمى و يهمى، كما هو الغيث النازل من السماء، و الماء الذى يتدفق من الينبوع، و النور الذى يفيض من الشمس.. انها ذاتيه العطاء فى حسابات اللطف و الرحمه، و ليس عطاء الذات فى حسابات الربح و التجاره.
انه انت الذى كان الوجود كله هبه منك، فكيف يفكر الغافلون انك تريد ثمنا له، و ما معنى الثمن لديك؟ ان الكلمات تتهافت و تتساقط كاوراق الخريف، فتتحول الى تفاهات عندما تقترب من هذا المعنى الذى لا معنى له.
«و يا من لا يكدر عطاياه بالامتنان»، فقد يعطى الناس ما يعطونه لبعضهم البعض ثم يمنون على من اعطوه فى شعور بالعلو او بالاستعلاء باعتبار ان اليد العليا خير من اليد السفلى، استطاله و اذلالا و تسجيلا عليه انه فى موقع الحاجه اليهم، و انهم فى موقع الاحسان اليه و الاشفاق عليه، ليزدادوا بذلك احساسا بالزهو، و يزداد به شعورا بالمهانه و الحقاره، و لكنك- يا رب- تمنح العطاء لخلقك فى كل شى ء، فى صفاء رحمتك و لطف محبتك، و عمق عطفك و حنانك، و ليعيشوا فيه كما يعيش الطفل مشاعر القوه فى حاله الاحتضان، و لينطلقوا فى سعاده غامره تفيض بالسرور الذى لا حد له، و الروحيه التى لا نهايه لها.
ان الناس يلجاون الى المن على الاخرين الذين يتقبلون عطاءهم، لان هناك فراغا فى الذات يريدون ان يملاوه بهذه الطريقه، او لان هناك عقده يحاولون ان ينفسوا عنها بهذا الاسلوب، فهم الانانيون فى اعمالهم، المعقدون فى علاقاتهم.
اما انت- يا رب- فلك الوجود كله، و لك الخلق كلهم، فما معنى الفراغ عندك، و ما معنى العقده؟ سبحانك تعاليت عن ذلك علوا كبيرا.
و ها نحن نتقبل عطاءك، كما نرشف الماء الزلال، و كما تحدق عيوننا بالشمس و هى تعيش فرح النور فى الحياه كلها.
«و يا من يستغنى به و لا يستغنى عنه» لانه الخالق لكل شى ء و المدبر لكل شى ء، و هو على كل شى ء قدير، و قد و جعل لكل موجود هداه، فمنه يستمد الوجود معناه، و منه تاخذ الحياه حركتها، و منه ياخذ النور اشراقته، و الماء عذوبته و سر الحياه فيه، و الهواء حركته و حيويته، فاذا التجانا اليه فى فقرنا الكلى حصلنا على كل ما نريد من غناه الكلى..
اما الاخرون فلا يملكون شيئا، و كيف يمكن لمخلوق ان يستغنى بالمخلوق عن الخالق الذى يرتبط كل شى ء به، و يعود كل امر اليه، و يعول الوجود عليه، و هذا ما يوحى به قول الامام الحسين بن على (ع):«ماذا وجد من فقدك و ما الذى فقد من وجدك؟».
«و يا من يرغب اليه»، لان لديه كل مواقع الرغبات، «و لا يرغب عنه»، لان الخلق كلهم لا قيمه لهم بدونه، و هو ولى العطاء و المنع، فكيف يرغب عنه الراغبون، و يغفل عن مدى قدرته و كرمه و رحمته الغافلون ،«و يا من لا تفنى خزائنه المسائل»، لان كلماته لا تفنى، و لان نعمه لا تعد و لا تحصى، فكلما نقص شى ء منها، خلق- من غامض علمه- الكثير الكثير.
«و يا من لا تبدل حكمته الوسائل» فقد اجرى الله الوجود كله من موقع حكمته، على اساس السنن الطبيعيه، من كونيه و انسانيه، و جعل ذلك قاعده للنظام العام الذى تقوم عليه الحياه، و هذا الذى جعل لها معنى الثبات من خلال ثبات المعطيات التى انطلقت بها حكمته.
فلو ان الناس ابتهلوا اليه، و قدموا كل وسائل الاستعطاف بين يديه، و حاولوا ان يغيروا شيئا من ذلك بكل جهدهم، لما استطاعوا الى ذلك سبيلا، لان للنظام فى مواقع حكمته، دورا مهما فى صلاح الوجود كله، و لا سيما النوع الانسانى فيه، مما يجعله مرتبطا بالمصلحه الانسانيه الشامله الكليه، بعيدا عن ايه حاله جزئيه.
لذلك فان الدعاء قد يجتذب الاجابه فى نطاق الحكمه الالهيه و من خلال المصلحه الانسانيه، فلن يستجيب الله دعاء الانسان اذا كان مضمونه متصلا بما يجلب له او للاخرين الضرر، او بما يخرب نظام الوجود، لان استجابه الدعاء تمثل حركه الرحمه من الله لعباده، فكيف تكون الرحمه فى ما يضرهم و يدمر وجودهم، و فى ضوء ذلك نفهم دائره اجابه الدعاء فى نطاق ما يصلح به الوجود و ينتفع به الانسان، ليكون الدعاء، فى سببيته المعنويه للاشياء، سببا فى الخير لا سببا فى الشر، و لذلك، فان عدم استجابه الله للانسان دعاءه، لا يمثل غضب الله عليه و ابعاده عن رحمته، بل قد يكون رحمه له، باعتبار ان مضمون الدعاء كان فى غير مصلحته، تماما كما هو الطفل المحبوب لابويه عندما يسالهما شيئا يضر بصحته، فهل يكون رفضهما لسئواله خروجا عن معنى المحبه له؟!
«و يا من لا تنقطع عنه حوائج المحتاجين»، فهى تتجدد باستمرار وجودهم، الذى يحتاج فى كل تفاصيله الى الله فى كل لحظه، لارتباط كل شى ء به، و لو لا رعايته الدائمه للكون كله و ما فيه، لسقط الوجود و انتهت الحياه.
«و يا من لا يعنيه دعاء الداعين» فلا يثقله و لا يضايقه شى ء من ذلك، لان ملكه اتسع لكل معانى دعائهم، كما ان قدرته شملت كل طلباتهم، و رحمته و سعت كل حاجاتهم، فلا مشكله هناك فى اى مجال، و فى اى امر، كما هى المشكله التى تعرض للمخلوقين عندما تزدحم عليهم المطالب، و تضيق بهم الامكانات.
«تمدحت بالغناء عن خلقك و انت اهل الغنى عنهم»، لانك الغنى بذاتك لا بجهه اخرى، «و نسبتهم الى الفقر و هم اهل الفقر اليك»، لانهم الفقراء اليك بطبيعه وجودهم الذى استمدوه منك كما استمدوا منك كل خصائصه، و تلك هى الحقيقه الوجوديه التى عبرت عنها فى كتابك بقولك سبحانكيا ايها الناس انتم الفقراء الى الله و الله هو الغنى الحميد)(فاطر: 15).
«فمن حاول سد خلته من عندك»، ثقه بك و بقدرتك على ذلك،«و رام صرف الفقر عن نفسه بك»، طمعا بغناك و كرمك،«فقد طلب حاجته فى مظانها و اتى طلبته من وجهها»، لانك الرب الكريم الذى لا يمنع احدا فضله، و لا يطرد احدا عن بابه، و يجتذب الناس الى دعائه ليستجيب لهم، و الى سئواله ليعطيهم.
و لان وجهك هو الوجه الذى يتوجه اليه العباد (فاينما تولوا فثم وجه الله)(البقره: 115)، فمن اتجه اليك فى طلباته فقد اتاها من الوجهه التى تقضى فيها و يحصل منها عليها، «و من توجه بحاجته الى احد من خلقك»، غفله عنك و عن مدى قدرتك،«او جعله سبب نجحها دونك»، جهلا منه بانه مخلوق و محتاج اليك و ان كل جهده راجع اليك، و انهم لا يملكون الا ما ملكتهم، و لا يعطون الا مما اعطيتهم، و لا يقدرون على انجاح شى ء او افشاله الا باذنك، ان هذا المخلوق الغافل الجاهل الذى استغرقته مظاهر المخلوقين فى قوتهم الظاهره المحدوده، و لم ينفتح على الخالق فى سيطرته المطلقه، و لم يفهم معنى الوجود فى ما هو الفارق بين الخالق و المخلوق، ان هذا المخلوق «قد عرض نفسه للحرمان»، لانه وقف بباب الفقير العاجز، و لم يقف بباب الغنى القادر،«و استحق من عندك فوت الاحسان»، عقابا له على انحرافه عن خط الايمان، و عن توحيد الرحمن، و تلك هى- يا رب- مساله الغفله لدى الانسان و قضيه البعد عن آفاق القدره فى ذاتك، و عظمه القوه فى ملكك.
اللهم اليك حاجتى:
هذا انت- يا رب- فى سعه قدرتك، و لطف رحمتك، و فيض كرمك، و هذه هى الحقيقه الناصعه فى معنى الالوهيه فى مقامها الاعلى الذى لا يدنو اليه مقام.
و تلك هى ايحاءاتها الروحيه و العمليه، بما ينبغى لعبادك ان ياخذوا به او يدعوه، فليس لاحد ان يفكر بغيرك فى حاجاته، و ليس له ان يبتعد عنك فى طلباته.
و لكنى- انا عبدك المقر بذلك كله، المعترف بكل نتائجه، وقعت فى التجربه الصعبه، فسقطت فى بحار الغفله و النسيان، فلم اعش اجواء الغيب فى روحيه قدس ذاتك، بل عشت سذاجه الحس فى الاستغراق فى مظاهر القدره فى خلقك، و لم اتعمق فى معنى قدرته، و لم ادخل فى مقارنه بين طبيعه القدره عند المخلوق و ارتباطها بمصدر الفيض من ربه، و محدوديتها فى حدود العجز لدى المخلوق.. فقد عرضت لى حاجه من حاجات الجسد فى همومه و مشاكله، فاستفزت فى المشاعر، و ضغطت على الاعصاب، و حركت كل النوازع الذاتيه فى نقاط الضعف البشرى، و اشارت الى ان اسرع الى باب من ابواب خلقك عندما رايت اصحاب الحاجات مجتمعين حوله يتطلبون قضاء حاجاتهم عنده، و سولت لى نفسى ان اخوض فى ما خاضوا فيه، و اتزلف الى من تزلفوا اليه، لاقف فى مقام الذل امام المخلوق، غافلا عن الحقيقه الايمانيه التى تفرض على المخلوق ان لا يذل نفسه لغير خالقه.
و هكذا ضغطت على حاجتى بعد ان عجز عنها كل موقع من مواقع القدره لدى، و تمزقت كل الوسائل التى حركتها من اجل الحصول عليها..، و وقفت حائرا مذهولا، و استمعت الى صوت نفسى الاماره بالسوء، و وسوسه شيطانى الذى يهمس بالشر، و اندفعت الى هذا المخلوق الذى لا حول له و لا قوه حتى فى نطاق حاجاته التى اذا عرضت له واحده منها رفعها اليك بلسانه، او بلسان الطبيعه الفقيره فى وجوده، فهو الفقير الذى لا يستغنى عنك لحظه واحده فى كل شى ء.
و كانت غفله خانقه انتبهت منها بتذكيرك لى: ايها الانسان اذكر مقام ربك و ارجع اليه، و كانت زله خطيره نهضت منها بتوفيقك، و قلت لى: ايها الانسان انتبه الى طريقك المستقيم، فلا تدع الشيطان ينحرف بك عنه و يقودك الى مواقع الزلل.
و كانت عثره مولمه، رجعت عنها بتسديدك، و قلت لى: لا تستسلم لتهاويل الخطيئه و اوهام الفكر الخاطى ء، و انظر الى بواطن الامور و ظواهرها.
و انكشفت لى الحقيقه، و تعرفت الى معالم الطريق، و نظرت الى عمق القضايا، و تطلعت الى آفاق عظمتك، فاكتشفت حقاره المخلوقين، و عرفت غنى ذاتك، و ادركت فقرهم، و التفت الى نفسى اهمس لها و اناجيها بمنطق العجب و السخريه، فمن هو هذا الانسان الذى وقفت ببابه لاساله قضاء حاجتى، هل هو الا الانسان الذى تحيط به حاجاته من كل جوانب حياته، فهو لا يتخلص من حاجه الا و ضغطت عليه حاجه اخرى، فما الفرق بينى و بينه، و ما الذى يميزه عنى لاكون فى موقع السائل و يكون فى موقع المعطى؟! و تساءلت مع فكرى الذى اشرق فيه نور هدايتك فجاه، كيف تتوجه رغباتى الى هذا المخلوق؟ و كيف اطمع فيه و هو المعدم فى امكاناته، كما انا المعدم فى قدراتى؟ و هل القضيه الا صفر يتوسل الى صفر!
و وقفت، فى نهايه المطاف، عند بابك الذى لا تغلقه عن احد من خلقك الا من اغلق ابواب الرحمه عن نفسه، و تساقطت على كل مساقط ينابيع الضياء، كشلال النور المنبعث من الشمس فى السماء، و قصدتك بكل رغباتى التى تتوسل الى ربوبيتك، و بكل رجائى الواثق بفضلك و كرمك، و فكرت: ما قيمه ما اطلبه امام خزائنك التى لاتعد و لا تحصى، فهو اليسير اليسير امام ملكك؟ و ما خطوره ما استوهبه منك، و هو الخطير فى قيمته لدى، امام وسعك، و الحقير الحقير عندك، امام امتداد مواقع غناك؟ ثم انطلقت فى آفاق صفاتك العليا، و تطلعت الى كرمك الذى اتسع للوجود كله، فكان الوجود بعض عطائه، و انفتح على المخلوقين كلهم، فكانت امتدادات نعمه فيه بعض فضله، فهل يضيق عنى كرمك فى نداء حاجاتى بعد ما استجاب لسئوال كل المحتاجين، و هل تمتنع عنى يدك بالعطاء بعد ان كانت اعلى من كل يد، فلايعجزها شى ء، و لا تمتنع عن احد؟.
انها- يا رب- ايحاءات الايمان فى قلبى المستمده من وحيك، و اشعاعات الافكار المتطلعه الى آفاق النور السابحه فى بحار نورك.
اللهم احملنى بكرمك و لا تحملنى بعدلك:
يا رب، سابقى فى كل حياتى الانسان الصارخ اليك بكل صرخه الخوف فى عقله، و بكل لهفه المحبه فى قلبه، و ستبقى كلماتى خاشعه لك خاضعه لربوبيتك، و سابحث عن المعانى التى تجتذب حنانك الى و عطفك على.
قد اكون- يا رب- العبد المسى ء الذى يستحق المنع من عطائك عندما تخضع الامور لحسابات العدل الدقيقه التى تضع لكل احسان ثوابا، و لكل اساءه عقابا.
و لكنك- يا رب- الاله المتفضل الذى تمنح العاصين فضلك كما تمنحه للمطيعين، و تعطى العاملين لك اكثر مما يستحقون، فتضاعف لهم الثواب، كما تخفف عن المذنبين العقاب. و هكذا تذوب السيئات و تتبخر فى الهواء فى آفاق عفوك، و تتضاعف الحسنات فى الطاف كرمك.
فاذا كنت اقف اليوم بين يديك فى حاجتى هذه، فانى فى الوقت الذى اشفق فيه على نفسى من عدلك الذى يجمد لى حاجتى فى دائره المنع، افكر فى الطمع بكرمك الذى تتفضل بمعطياته على عبادك الخاطئين، فتستجيب لهم طلباتهم، و تقضى لهم حاجاتهم، و تجيب لهم دعواتهم.
فهل تتفضل على بكرمك؟
اننى اتطلع الى المذنبين من قبلى، و هم كثيرون، قد حصلوا على عطائك بما رغبوا اليك فيه، و على فضلك بما سالوك منه، و لم تمنعهم لذنبهم، و لم تحرمهم لعصيانهم، فهل اطمع- يا رب- ان اكون واحدا من هولاء فى ما جرت به سنتك فى العفو و العطاء؟
اللهم كن لدعائى مجيبا:
يا رب، لقد دعوتك بكل روحى و عقلى و مشاعرى، فكن لدعائى مجيبا، ففى كل لهفه فى داخله معنى الاخلاص و الخشوع، و قد ناديتك بكل كلماتى و لهاثى و خفقان قلبى و عمق احساسى، فكن من ندائى قريبا، ليكون ندائى قريبا الى مواقع الرحمه فى ذاتك، و قد تضرعت اليك بكل ذلى و مسكنتى و قله حيلتى و ضعفى و قلقى و حيرتى، فكن لتضرعى راحما، لان موقفى هذا يجتذب كل الرحمه منك، كما يستنزف كل الدموع من عينى.
و قد رفعت صوتى، بكل ما فيه من صرخه المستغيث و لهفه المحب، لتسمع دقات قلبى الخائفه، و خفقات انفاسى اللاهثه، و صيحات مشاعرى المتعبه، فكن لصوتى سامعا، لاحس بانى و صلت اليك، و انك عانقت احلامى برضاك.
ان لى يا رب كل الرجاء بك، فلا تقطع رجائى عنك، و لا تجعلنى من اليائسين.
و اننى اطلقت كل الاسباب التى تصلنى بك، و تقربنى اليك، و تودى الى قضاء حاجتى، فلا تسقطها فى الفراغ، و لا تجعلنى من الحائرين.
و قد قصدتك بحاجتى- هذه- انطلاقا من توحيدى فى السئوال فى خط توحيدى فى العقيده و العباده و الطاعه، فلا توجهنى فى حاجتى هذه و غيرها الى سواك، لانى لا ارجو لقضاء حاجتى غيرك، فانت ولى كل حاجه، و منتهى كل رغبه.
اعطنى النجاح فى حاجتى هذه سريعا قبل زوالى من موقفى هذا، فان كان هناك عسر فانى اتوسل اليك ان تيسره، و اذا كانت هناك حواجز تحول دونها فانى ارغب اليك ان تتفضل بازالتها من خلال حسن تقديرك فى جميع الامور، لانك تقدر الخير بقدرتك و تصلح امور عبادك بتوفقيك فى الدنيا و الاخره.
اللهم انى ادعوك بالصلاه على محمد نبيك صلاه دائمه مستمره حتى الابد، ممتده امتداد الابد، و اجعل هذه الصلاه التى تعبر عن حبنا له من خلال حبنا لك، و ايماننا به من خلال ايماننا برسالته، اجعلها- يا رب- عونا لى على القرب منك و سببا فى نجاح طلبى عندك، لانه فى الصلاه عليه بعض ما يفتح لنا ابواب رحمتك و كرمك انك واسع كريم.
و من حاجتى- يا رب- كذا و كذا.. و تذكر حاجتك و تسجد و تقول:
فضلك آنسنى، و احسانك دلنى، فاسالك بك و بمحمد و آله، صلواتك عليهم، ان لا تردنى خائبا.
اللهم لا تردنى خائبا:
هذه حاجتى- يا رب- بكل تفاصيلها، ارفعها اليك، و انت اعلم بها منى، فلست اذكر شيئا خفيا لتعلمه عندما اذكرها لك، و لكنك تحب لعبادك ان يسالوك حاجاتهم، و ان يبثوا همومهم ليقربوا الى آفاق ربوبيتك، و ليعيشوا معنى عبوديتك، من خلال ذلك.
اننى- يا رب- اعيش السجود لك بكل كيانى، فقد سجد لك عقلى و روحى و قلبى و حياتى كلها.
و اذا كنت اعيش الوحشه من خلال الجحود الذى القاه من بعض خلقك، فانى انفتح دائما على الانس الذى احياه فى فضلك، و اذا ضل بى الطريق، و ضاعت على المسالك فى كل حاجاتى و قضاياى، فانى اجد الدليل اليك فى احسانك الذى فاض على كل المخلوقين و على الوجود كله.
و ها انذا فى غمره فضلك، و فى هدى احسانك، اسالك بك و انت منتهى كل شى ء و اليك يرجع الامر كله، و بمحمد و آله الذى بلغ رسالتك الى خلقك، و بلغها آله من بعده، و اطاعوك حق طاعتك، فكانوا فى مواقع القرب اليك، فسمحت لخلقك ان يستشفعوا بهم اليك اكراما لهم.
اسالك- يا رب- ان لا تردنى خائبا، فانك الكريم الذى لا يرد صاحب حاجه عن حاجته يا ارحم الراحمين.