دعاوه فى الرضى اذا نظر الى اصحاب الدنيا
الفقر و الغنى فى الميزان الالهى:
فى هذا الدعاء حديث عن موقف الانسان المومن امام السنن الالهيه الاجتماعيه فى حياه الانسان فى اعطاء الغنى لبعض الناس مما اولاهم الله من السعه فى الرزق و الرخاء فى العيش، و فى انزال الفقر ببعض آخر، مما اوقع بهم من الضيق فى الحال و الشده فى الواقع، الامر الذى قد يوقع الاغنياء فى الفتنه الذاتيه التى تنظر الى الغنى كقيمه كبيره تعبر عن الدرجه العاليه عند الله، لتجعلهم فى موقع الفوقيه بالنسبه الى الناس، فيدفعهم الى الاستعلاء الذاتى و الاستكبار العملى الاجتماعى من خلال نظرتهم الى فقر الفقراء كقيمه سلبيه منحطه تضعهم فى الدرجه السفلى عند الله و عند الناس، ليتصرفوا معهم على اساس الاهمال و الاحتقار كايه جماعه لا تملك من عناصر الاحترام شيئا.
و فى الجانب الاخر قد يقف الفقراء امام واقعهم المرير بالمقارنه مع المستوى الرفيع للواقع الغنى الواسع الذى يتحرك فيه الاغنياء، فيدفعهم ذلك الى حاله من الاهتزاز الايمانى بحكم الله، فلا يرضون به بل يحتقرونه و ينتقدونه و يعلنون سخطهم عليه، فيخرجون بذلك عن الطمانينه الايمانيه فى الثقه بالله و الرضى بقضائه.
و ينطلقون- فى الاتجاه الانحرافى الاخر- الى الحسد للاغنياء فى عقده نفسيه تتمثل فى التمنيات الحاقده التى تتحرك من اجل زوال النعمه عنهم و انتقالها اليهم، الامر الذى قد يودى الى الكثير من المشاكل النفسيه و الاجتماعيه يحركها الصراع بين الفقراء و الاغنياء من موقع العقده الذاتيه، بعيدا عن النتائج السلبيه فى علاقه بعضهم ببعض فى الامتداد العملى فى تعقيداته و مشاكله.
و هنا ينطلق الدعاء ليعمق فى نفس الانسان الايمان بان الله يمنح الانسان السعه فى جانب و يمنعها فى جانب آخر من خلال المصالح العميقه للواقع الانسانى كله، فقد يكون الغنى مصلحه لشخص، و قد يكون الفقر مصلحه للاخر، و ربما تتصل المساله بالواقع الوحدوى للنظام الكونى، بحيث يكون العدل فى النطاق الشامل الذى يجمع الناس كلهم فى صعيد واحد، و لا ينظر الى كل واحد بمفرده فى حاجاته و قضاياه، فاذا درس الانسان ذلك كله اكتشف سر قضاء الله و قدره، فيرضى بحكم الله، و يقربان العدل هو الاساس فى ما يقسم الله من الرزق مما يتوزعه الناس بدرجات متفاوته، فيطيب صدره و يتسع و يرتاح بمواقع حكم الله فى عباده، و تنفتح نفسه على ذلك كله من موقع الرضى الهادى ء العميق بان القضاء المعين الذى حل به كان الخير الالهى فيه.
و من خلال هذا العمق فى الوعى الايمانى للقضاء الالهى، ينفتح الانسان فى ادراكه بان قضاء الله لم يجر الا بما فيه صلاح حياته فى السعه و الضيق و الشده و الرخاء، فيشكره على الحرمان من بعض رزقه بالمستوى نفسه الذى يشكره فيه على العطاء فى حياته، لان المساله هى النتائج الايجابيه فى عمق الحكمه الالهيه فى تقدير الله لما يصلح الانسان فى واقعه الوجودى.
اما القيمه الكبرى فى وعيه فلا ترتكز على الغنى و الفقر، فليس الشريف من يملك المال الكثير فيكون له الفضل الذى يميزه عن الاخرين فى دائره القيمه الايجابيه، و ليس الحقير الخسيس من لا يملك مثل ذلك، بل يعيش الحرمان و الضيق فتكون له الدرجه السفلى التى تحط به عن الاخرين فى درجات السلم الاجتماعى، فالمال ليس معنى فى الانسان من حيث مميزاته الانسانيه، بل هو شى ء خارج عن ذاته، طارى ء فى حياته من خلال العوامل الخارجيه التى قد تضيق به تاره و تتسع له اخرى، مما يجعل المساله خاضعه للاوضاع المتنوعه مما يحيط بالانسان من هنا و هناك.
و لكن الشرف كل الشرف هو الاراده الانسانيه المنفتحه على الله فى خط الطاعه الذى هو الخط المستقيم الذى يبداء من امر الله و نهيه، لينتهى الى مواقع رضاه، و يرتفع بالانسان الى ساحه القرب منه، فذلك هو الشرف الرفيع الذى ينطلق من روحه و عقله و قلبه و جهده فى خطه العملى، و تلك هى العزه التى يقف الانسان فى ساحاتها قويا ثابتا صامدا لا ينتقص منه احد، و لا يفرض عليه الذل انسان، و ينتهى الدعاء بالطلب الى الله ان يمنحه الثروه الدائمه الباقيه التى لا تنفد، و ان يعطيه العز الذى لا يفقد، لينطلق به فى نهايه المطاف الى الملك الابدى الذى لا حد له فى امتداده و لا نهايه له فى وجوده.
انه الدعاء المتنوع فى ايحاءاته الايمانيه، و لمساته الاجتماعيه، و انطلاقاته الروحيه، و التفاتاته التربويه، فلا يتاثر الانسان الناظر الى اصحاب الدنيا فيسقط امامهم و يبتعد عن الخط المستقيم من خلال مشاعره السلبيه و احاسيسه الذاتيه، بل يمتلى ء عقله و روحه فى نظره فلسفيه عفويه تنطلق بالرضى بالقضاء الالهى فى كل شى ء.
الحمد لله رضى بحكم الله، شهدت ان الله قسم معايش عباده بالعدل، و اخذ على جميع خلقه بالفضل، اللهم صل على محمد و آل محمد، و لا تفتنى بما اعطيتهم، و لا تفتنهم بما منعتنى، فاحسد خلقك، و اغمط حكمك.
الحمد لله على كل حال:
يا رب، لك الحمد، لان كل موقع من مواقع الحمد يتطلع اليك، فانت الذى صنعت للحمد معناه، و منحته سره، و اعطيته كل مداه، فلا حمد الا حمدك، لان حمد كل موجود ينتهى اليك لانه كان عطاءك، اما حمدك فهو سر ذاتك، لان الحمد هو صفه وجودك القدسى.
لك الحمد، فنحن لا نتصورك الا محمودا، و لا نذكرك فى ابتهالاتنا الا بالرب الحميد فى صفاته و افعاله.
فالحمد لله على كل تنوعات رضاه فى حياتى و حياه الاخرين، فى الفقر و الغنى، فى الصحه و السقم، فى الامن و الخوف، فى الشده و الرخاء، و فى كل الوان الحياه المتحركه فى دروب انسانيتنا المليئه بالتعقيدات على مستوى الحركه و الواقع، فانا قد اجد شخصا غنيا الى جانب شخص فقير، و انسانا معافى فى مقابل انسان مريض، و مجتمعا آمنا الى جانب مجتمع خائف.
و ربما كان الواقع المزدوج فى تناقضاته يدفع الى تفكير شيطانى، و تساول انفعالى. لماذا هذا التنوع الذى يمنح هذا فرصه للراحه لا يمنحها لذاك، و كيف يصرخ الالم فى انسانيه انسان بينما ينفتح انسان آخر على اللذه فى حركه وجوده؟
و قد تمتد هذه ال(لماذا) الى عده مجالات و مواقع فى واقع الوجود الانسانى، و قد تختصر الجميع كلمه «هل هذا عدل»؟ و لكن المشكله هى ان الانسان يفهم العدل دائما من خلال مشاعره و غرائزه و حاجاته و اوضاعه، فيرى ان كل ما يسى ء اليها ظلم من دون ان ينفتح على غيره فى اوضاعه الخاصه و العامه، فينظر الى الامور من جانب واحد بعيدا عن الجوانب الاخرى، و يرتبط بالاشياء من خلال السطح لا من خلال العمق، و بذلك يبتعد عن وعى التوازن بين الاشياء فى امتدادها و انفتاحها، فتختلط عليه القضايا، فيحسب العدل ظلما و الظلم عدلا.
و هذا ما ينبغى له ان يلتفت اليه اذا التقى فى وعيه بربه فى موقع الالوهيه الشامله و الربوبيه الممتده فى حياه خلقه و فى وجود الكون فى سعته و امتداده، فهو الذى يحيط باسراره فى ظواهره و بواطنه، و هو الذى يعلم ما يصلحه و يفسده، فيوزع نعمه على الناس كما يوزعها على الموجودات من خلال حاجاتها الحقيقيه بحكمته التى يدير بها نظام الحياه و الناس و الوجود الكونى الشامل، لانه من موقع رحمته و حكمته، يمنح كل شى ء حاجته من خلال علمه بحدودها، فلو زاد له اكثر من ذلك لفقد مصلحته، و لو انقص منه لوقع فى المفسده.
و هذا ما ينبغى للمومن الواعى العارف بربه ان يلتفت اليه فى وعى ايمانه، فيومن بان الله هو العدل فى حاله المنع كما هو العدل فى حاله العطاء، و هو العدل فى وقوع الانسان فى ما يكرهه لنفسه، كما هو العدل فى وقوعه فى ما يحب، فاذا نظر الى اختلاف معايش العباد فى الفقر و الغنى و الضيق و السعه، عرف انك يا رب و زعت عليهم ارزاقهم فى خط التوازن الذى يحقق لهم الخير الشامل، فاذا قل لديهم حجم الرزق من جانب فانهم يحصلون على نوعيه الخير من جانب آخر، و هكذا يكشف سر العدل فى صنعك، و مضمون الصلاح فى تقديرك، و معنى الحكم فى تدبيرك، و انت- يا رب- فى ذلك كله صاحب الفضل عليهم جميعا لانهم خلقك، فلا يملك احد عليك شيئا لانك الذى ملكتهم كل ما لديهم.
و هكذا يتوجه اليك فى ابتهالاته ان يشرق وحيك فى عقله و روحه و حسه، ان لا تدخله فى التجربه- الفتنه التى تدفعه الى الاستغراق فى الغنى الذى فتحت لهم موارده و مصادره ليجد فيه القيمه الكبرى و الدرجه العليا التى حصلوا عليها منك، و لم يحصل عليها، فيتعقد منهم فى عمليه رفض للواقع المنطلق من حكمتك فى تقدير الارزاق فى النظام العام، مما يبتعد به عن الرضى بقضائك و الاذعان لحكمك، و يدفع به الى الحسد لخلقك فى احساس عدوانى يتمنى فيه انتقال غناهم اليه و فقره اليهم، بعيدا عن الروح الايمانيه التى تطلب منك ان تمنحها مثلهم مع ابقاء رزقك لهم على حاله.
و ربما يودى هذا الواقع المختلف بين الغنى و الفقير الى ان يقع الغنى فى التجربه الفتنه فتعظم نفسه عنده و يحتقر غيره لذلك.
اللهم لا تدخلنا فى التجربه الصعبه و اجعلنا من الراضين بفضلك و الواعين لحكمتك و المذعنين بانك لا تقضى الا بما فيه الخير لخلقك من موقع الخير و البلاء.
اللهم طيب بقضائك نفسى:
يا رب، انا الانسان الذى خلقته منفتحا على الحس من خلال ارتباط حواسه بما حوله و من حوله، و انطلاق نظرته الى الاشياء و حكمه عليها من علاقتها بذاته، و تحرك و عيه للموقع الذاتى لحياته من قاعده انفتاح الاشياء و الاوضاع و القضايا على وجوده بشكل مباشر يرتبط بالسطح و لا ينفذ الى العمق، و يقف امام البدايات و لا يحدق بالنهايات، فيستعجل الاحكام السلبيه فى المشاكل الصعبه المعقده، و يبطل الاحكام الايجابيه فى الانفعالات الضاحكه المنفتحه، من دون دراسه للنتائج القريبه او البعيده.
و هذا هو الذى يدفعنى الى الانحراف عن خطك المستقيم فى وعى الوجدان لحركه قضائك فى حياتى، و مواقع حكمك فى امورى، فانفتح عليك فى موقف شكر خاضع اذا التقيت بعطائك، و ابتعد عنك فى عمليه انغلاق روحى اذا و اجهتنى بالمنع، تماما كما لو كان العطاء- فى حياتى- خيرا مطلقا ارتاح له، و كما لو كان المنع شرا مطلقا اشعر بالانزعاج معه، فتكون علاقتى بك كعلاقتى بالاخرين من خلقك تبعا لاوضاع الايجاب و السلب بما يتصل بقضائك لى و حكمك على.
يا رب، اننى لا اجد فى نفسى- من خلال هذا الاحساس- الانسان المومن الذى يومن بان فى الغيب الذى يختزنه علمك الكثير الكثير من الخير الذى لا يعرفه الانسان الا من خلال و عيه للعمق فى طبيعه الاشياء، و للعاقبه فى نهايات الامور، فكم من امر يراه الانسان فى ظاهره او فى بدايته شرا و هو خير، لان هناك اكثر من عنصر يختفى فى عمق الواقع، او يختفى فى خفايا المستقبل، و كم من امر يظنه الانسان خيرا و هو شر، من خلال السلبيات الواقعيه الخفيه فى الحاضر و فى مدى الزمن.
و كم من قضايا لا ادرك حكمتها فى تجاربى المحدوده و لكن علمك باسرارها يحمل الكثير من مواقع الحكمه فى كل تفاصيلها.
لقد خلقتنى- يا رب- و انت اقرب الى من حبل الوريد، فانت الذى يحول بين المرء و قلبه، و يعلم ما توسوس به نفسه، يا مقلب القلوب، اعطنى من لطفك و هديك و رحمتك القوه على ان املك العمق فى ايمانى، و الامتداد فى انفتاح فكرى على المستقبل، و الوعى العميق لكل ما تنزله بى من انواع القضاء مما قد تفرحنى نتائجه، لانها تلتقى بما احبه و ارتاح اليه، لانه ينسجم مع رغباتى و حاجاتى فى الحياه، او مما قد تحزننى مشاكله، لانها توقعنى فى ما اكرهه و تزعجنى بما تثيره فى حياتى من تعقيدات، و تبتعد عما اتطلع اليه من طموحات الحركه فى الحاضر و المستقبل.
فاجعلنى من المومنين بك الواثقين بان اختيارك لى لم ينطلق الا من مصلحتى فى عمق حياتى من خلال الخير الذى يختزنه فى واقع الامر فى نهايه المطاف، مما قد لا يكتشفه الاحساس الظاهر او الملاحظه السريعه، لانك الرب الرحيم الحكيم الخبير بحاجات عبادك، فلا تتصرف فى شوونهم الا بما يصلح امورهم، مما قد لا يعرفونه و لا ينفتحون عليه من خلال جهلهم بحقائق الاشياء.
و وسع صدرى لكل مواقع حكمك فى حياتى، فلا يضيق بنتائجها السلبيه، و لا يتعقد من متاعبها المرهقه، مما يشق على النفس تحمله، و تضيق به ذرعا، فاعيش الرضى بكل قضائك فى احساس بالطمانينه بان فيه الخير كل الخير، و الربح كل الربح، و ان ما يواجهنى- الان- من الشر سوف ينفتح على الخير، و ان ما اعيشه من الحزن يختزن فى داخله الفرح.
و فى ضوء ذلك، اجعلنى ممن يشكرك على البلاء بالروح نفسها التى يشكرك بها على العافيه، و على الفقر كما على الغنى، و على المنع بالقوه الروحيه التى ينفتح فيها على العطاء، بل تزيد عن ذلك، لاعبر لك من خلال الثقه المطلقه بحكمتك و رحمتك، اننى عبدك الذى يوكد اخلاصه لك فى ساعات الالم باكثر مما يوكده فى ساعات اللذه، و يرى ان ما منعته من الخير يستوجب الشكر باكثر مما اعطيته، فى الموقف الذى يحس فيه بالانسحاق امامك و الذوبان فى عبوديته لك و ربوبيتك التى تدبر امره و تربى حياته.
ان الشريف من شرفته طاعتك:
يا رب، هب لى العصمه الفكريه الروحيه التى تنظر الى الناس من خلال ما يملكونه من القيم الاخلاقيه المنفتحه على الدرجات الرفيعه التى يبلغونها فى علاقتهم الا يجابيه بك من حيث طاعتهم لك، و امتثالهم لا وامرك و نواهيك، مما اردت لهم ان يفعلوه او يتركوه، و لا تنظر اليهم- فى خط القيمه- من خلال ما يملكونه من الاموال الكثيره التى تجعلهم فى مستوى الغنى او ما يفقدونه من ذلك بما يجعلهم فى مستوى الفقر، لان انسانيه الانسان فى شرفه و عزته، و خساسته و حقارته، تتمثل فى ملكاته الروحيه، و قدراته الفكريه، و ممارساته العمليه، فهى التى تمثل حركه انسانيته فى وجوده، لانها تتصل بالمضمون الداخلى الكامن فى ذاته، اما المال فانه ليس شيئا فى الانسان بل هو شى ء خارج عنه، فلا قيمه له الا من حيث اضافته اليه قانونا، او وجوده فى حوزته او بين يديه، فلا دور له فى الفكر و الروح و الطاقه و الحركه، بل هو وسيله من وسائل الحصول على حاجاته براحه، فلا يمثل فقده له نقصانا فى الانسان، و نزولا فى مرتبته، كما لا يودى وجوده عنده زياده فيه و علوا فى درجته، لانفصاله عن ذاته فى جانب السلب او الايجاب، فكيف يكون قيمه ايجابيه هنا و قيمه سلبيه هناك؟ ان المال قد يتحول الى قيمه انسانيه اذا حركه الانسان فى اتجاه الخير الممتد فى الحياه من خلال حاجه الانسان اليه، و ذلك فى حركه العطاء المنطلقه من احساس الذات بالام الاخرين و حاجاتهم، فتنهض للقيام بمسوولياتها فى ذلك كله انطلاقا من معنى الخير الكامن فى النفس، بحيث يكون العطاء مظهرا للقيمه الروحيه، فهى التى تعطيه معناه، و تمنحه درجته.
اللهم اجعلنى ممن يرتبط فى نظرته الى الاشياء بحقائقها، و فى انطباعاته الفكريه بجوهرها، فاحترم الانسان فى مواقع العزه و الشرف من خلال قربه منك و حظوته عندك، لان ذلك هو العز كله و الشرف كله، فان رضاك عن اى عبد من عبيدك او امه من امائك يجعله فى الدرجه العليا فى درجات الناس التى يتفاضلون فيها، لان الرفعه عندك- و انت الله الذى ليس كمثله شى ء و المهيمن على الامر كله و الخلق كله- هى مقياس ارتفاع الانسان، لان الرفعه عند الناس تاخذ بعدها من قيمتهم فى الموقع، و لا قيمه لاحد منهم امامك، بل نحن و هم سواء فى عبوديتنا لك، و بذلك يكون التفاضل فى الشرف بالتفاضل فى طاعتك التى تقربنا اليك، و فى العزه بالتقدم فى عبادتك التى تمنحنا رضوانك، و فى ذلك كله السعاده فى الاخره فى نعيم الجنه و فى الاولى فى طمانينه الروح، و فى الوجود الحى، فى رضوانك الذى هو النعمه كل النعمه، لانه الاكبر و الارفع و العلى فى ميزان النتائج مما يحصل به العبد من مولاه.
و لا بد من ملاحظه فى هذا الايحاء الفكرى فى هذه الفقرات، و هى ان الاسلام يريد للانسان ان يتحرك فى تقويمه للاشخاص من حوله، بمقدار التزامهم الدينى، و علو شانهم فى الانفتاح على الله و اخلاصهم فى العمل بطاعته، فذلك هو القيمه الكبرى فى المضمون الاسلامى، مما يجعل القيم الذاتيه الاخرى فى وجود الانسان، كالعلم و القوه و نحوها، خاضعه فى حركتها لتلك القيمه، فللعلم قيمته بقدر ما يحركه الانسان فى الخير الذى يبنى للحياه قوتها و يحقق للانسان حاجاته، و للقوه قيمتها بمقدار ما تنطلق لتقويه الضعيف و ادراك اللهيف، و بناء الحياه بالطريقه التى تجعل الانسان قويا فى مسوولياته الموكوله اليه فى الحياه... و هكذا تنطلق القيمه الذاتيه لتكبر و تمتد و ترتفع من خلال حركيتها فى الواقع فى خط المسووليه لا من خلال ذاتيتها فى حركه الذات.
و من اجل ذلك يكون الانسان المومن متواضعا كلما تعاظمت القيمه الموضوعيه لديه، لانه يزداد احساسا بنعمه الله عنده و بفضل الله عليه، فلا يدفعه ذلك الى التكبر على الناس و التجبر عليهم، و الاستعلاء بموقعه على مواقعهم، لانه لا يرى لنفسه شانا فى ذلك، بل يراه هبه من الله له و فضلا منه عليه، فيزداد خضوعا له و احساسا بالحاجه الى ان يبذل ما لديه من الطاقات لكل الناس الذين يحتاجون اليها من دون شعور بايه منه له عليهم فى ذلك، لان المنه لله اولا و آخرا.
و قد جاء فى الحديث الماثور عن ائمه اهل البيت (ع) ما يوحى بالفكره البارزه فى هذا الدعاء من رفض اعتبار الفقر مصدر خساسه، و الغنى مصدر شرف و فضل بالدرجه، التى تمنع الانسان من احتقار الفقير لفقره و تعزيز الغنى لغناه، فقد جاء فى كتاب نهج البلاغه عن الامام اميرالمومنين على بن ابى طالب (ع) انه قال:
«من اتى غنيا فتواضع له لغناه ذهب ثلثا دينه». و عن ابى عبدالله الامام جعفر الصادق (ع) قال: «من استذل مومنا و استحقره لقله ذات يده و لفقره، شهره الله يوم القيامه على رووس الخلائق».
اللهم ايدنا بعز لا يفقد:
اللهم ان الغنى غناك، و الرزق رزقك و المال مالك، فمنك الغنى و الثروه فى حركه الرزق كله، فليس لنا من ذلك كله الا ما اعطيته، فاعطنا من غناك ما يغنينا عن غيرك فى امتداد حياتنا من ثروه لا تنقطع و لا تفنى.
اللهم ان العز عزك، فانت العزيز الذى لا حد لعزته فلك العزه جميعا، و منك ياخذ الاعزاء عزتهم من خلال ما تهيوه لهم من وسائل العز مما يحصلون عليه من رزقك و قوتك و علمك، و ما تفتح به قلوب الناس عليهم بما توحى به من احترامهم النفسى و تعظيمهم الفكرى و تقديرهم العملى، لان القلوب بيدك، فانت الذى تقلبها كيف تشاء، و توجهها لمن تشاء، و تجمعها حول من تشاء، فلا عزه من غيرك، لان عزته منك، و ما يمنحه من العزه لمخلوق مثله، صادر عنك.
فاعطنا من عزك عزا تستقيم لنا به القوه فى الحياه، و يعظم به شاننا فى قلوب الناس، و اجعل ذلك كله فى طاعتك، لنزداد تواضعا لك كلما ازددنا عزا عند خلقك، فلا يدفعنا ذلك الى الخيلاء و الزهو، بل يبعثنا الى ان نتلمس نقاط الضعف فى داخلنا لنتوازن فى نظرتنا الى انفسنا و الى حقيقه الامور.
اللهم اعطنا عزا دائما شاملا لا نفقده فى اى موقع من مواقع حياتنا حتى نعيش العمر كله فى عزك الذى هو من اغلى نعمك عندنا.
و ارسلنا- يا رب- فى الملك الذى يستمر فى الابد و الدهر الطويل، فان الملك ملكك، فانت الذى توتيه من تشاء و تنزعه ممن تشاء، لان الخير كله بيدك و انت القادر على كل شى ء، و انت الواحد الاحد فى الوهيتك و ربوبيتك و فى كل شى ء مما توحى به اسماوك الحسنى و صفاتك العليا، الصمد الذى يصمد و يقصد اليه فى الحوائج، الذى لم تلد و لم تولد لانك الله الازلى فى وجوده، الابدى فى خلوده، المتعالى عن كل الحوادث، فلا تعرض له و لا تغير شيئا من ذاته، فهو الخالق لها المهيمن عليها، و هو وحده المتميز عن كل شى ء، فلا يماثله شى ء و لا يساويه شى ء، فلم يكن له كفوا احد، فلا يكافئه احد من خلقه الذين كان وجودهم بارادته و غناهم من ثروته، و قوتهم من قوته، فما بهم من نعمه فمن الله، مما يجعلهم فى حاجه دائمه، فكيف يساوونه و يكافئونه، تعالت عظمتك عن المخلوقين و جل اسمك عن الخلق اجمعين.