دعاوه بالتقصير عن تاديه الشكر
مفهوم الشكر فى الاسلام:
ان قضيه الشكر لله فى حركه العبوديه الخالصه فى نفس الانسان، هى قضيه انفعاله الايجابى بكل النعم التى اغدقها الله عليه فى وجوده كله، و ما من نعمه لديه فى كل اموره الا من الله، فهو مصدرها و مفيضها و محركها و مثيرها، فبالشكر يعيش الانسان معنى انسانيته المنفتحه على الله الذى هو سر الحياه فى عقله و جسده و حركته و علاقته بالكون و الحياه.
انه التعبير عن انفتاحه على ربه و خضوعه له و عمق احساسه به و حضوره لديه، فلا يرى فى حياته نعمه خاصه او عامه الا وجد الله عندها و معها و خلفها، لانه لا يملك تصورها بذاته كشى ء منفصل عنه، لانها مما لا معنى لها الا به.
و لكن السئوال الذى يفرض نفسه عليه هو: هل يستطيع الانسان ان يبلغ حقيقه الشكر و شموليته له فى كلمه واحده تستوعب كل الكلمات، او فى موقف واحد يطل على كل المواقف؟
ان هذا الدعاء يعبر عن عجز الانسان عن ذلك، لان الانسان المومن اذا شكر الله فى غايه فان احسان الله يتتابع فى حياته، ليجد نفسه فى موقع شكر جديد من خلال انه فى موقع نعمه جديده تفرض عليه التعبير عن شكرها، و هكذا يعجز- فى مواقع الطاعه- عن بلوغ الغايه القصوى من استحقاق الله لذلك منه مهما كان اجتهاده فى العباده، لان حقه عليه اعظم و فضله عليه اكبر و مقامه اعلى و ارفع، فلا يملك احد الخروج عن حد التقصير فى ذلك، و كيف يملك ذلك فى عباده يتحرك فيها فى الوسائل التى هياتها له فى حركه وجوده فى ملكك، فهو يشكرك باللسان الذى خلقته له، و العقل الذى و هبته اياه، و يعبدك بالجسد الذى اعطيته له و الحياه التى منحته اياها، و هكذا كانت مغفرتك للذين استغفروك تطولا منك عليهم لا استحقاقا للمغفره منك كما كان رضاك عنهم فضلا منك لا شيئا يتوجب عليك، و يمتد فضلك فى حياتهم عند ما يجدونك شاكرا لليسير مما قدموه من شكر، و متفضلا بالثواب على قليل مما قاموا به من طاعه، فكانهم يملكون ذلك بدونك، و هذا ما لا واقع له و لا معنى، فانهم لا يحصلون على ايه فرصه للشكر او للطاعه الا من خلال الاسباب التى اعددتها لهم، و الفرص التى خلقتها فى حياتهم فلا استقلال لهم فى الجهد الذى بذلوه، و العمل الذى انتجوه، و الطاعه التى حصلوا عليها، فكل شى ء منك و بارادتك، فانت المالك لامرهم فى كل وجودهم و حركه القوه فيه قبل ان يتحركوا فى عبادتك بالادوات التى ركبتها فيهم، و انت المتفضل عليهم بالثواب قبل ان يفيضوا فى طاعتك، لان الثواب لا ينطلق- فى طبيعته- من ذاتيه عملهم، بل من خلال التفضل عليهم، فانت الذى جعلت لهم الحق من فضلك، من خلال ما تفردت به من سنه الافضال على عبادك و عاده الاحسان اليهم، و سبيل العفو عنهم عما اخطاوا فيه معك.
و فى ضوء ذلك كله، فان وعى ربوبيتك فى حركه عبادك، يدفع الناس كلهم الى الاحساس بانك غير ظالم لهم فى عقوبتك لهم على ما اسرفوا به على انفسهم من معاصيك، لانك اقمت عليهم الحجه بما عرفتهم من حقك، و حذرتهم من معصيتك، و رغبتهم من طاعتك، بالعذاب الذى فرضته و الثواب الذى وعدته، فظلموا انفسهم فى انحرافهم عنك، و لم تظلمهم بذلك.
اما الذين عافيتهم من العذاب و انعمت عليهم بالثواب، فانهم لم يستحقوا ذلك بجهدهم بل حصلوا عليه بتفضلك، و لذلك فانهم لا يخرجون انفسهم عن حد التقصير عما تستحقه منهم من الطاعه و الشكر، فان عقولهم و قلوبهم قد امتلات بالايمان بك و بمحبتك و بالاعتراف بفضلك فى كل نعمك.
فلو لا نقاط الضعف المركوزه فى ذواتهم، و انحراف الغرائز الكامنه فى كيانهم مما يستغله الشيطان ليزين لهم و يخدعهم و ليصرفهم عن طاعتك، و ليغير الصوره الحقيقيه للاشياء، فيقدم لهم الباطل بصوره الحق فى جانب و الحق بصوره الباطل فى جانب آخر، فيبعدهم عن ساحه رضوانك... لما عصاك فيهم عاص، و لما ضل منهم عن طريقك ضال، لان فطرتهم تقودهم اليك و تربطهم بك و توجههم الى طاعتك.
و هذا هو الذى يجسد عظمه الكرم الالهى فى التعامل مع عباده، سواء اكانوا من المطيعين له او من العاصين، فيشكر للمطيعين ما عملوه فى خط الطاعه فى الوقت الذى لا يملكون معه اى استقلال فى ذلك، فلا فضل لهم فى ذلك بل الفضل له اذ الهمهم ذلك و هداهم اليه و هياء لهم الوسائل العمليه للوصول اليه، و يمهل العاصين فيملى لهم لتكون لهم فرصه العوده اليه لا قامه الحجه عليهم فى تهيئه كل الظروف التى تدفع الى التفكير و توحى بالحركه فى الخط المستقيم فى الوقت الذى يملك الله معاجلتهم بالعذاب جزاء لمعصيتهم.
و هكذا يمنح الله كلا منهما ما لا يستحقه من الثواب هنا و الفرصه هناك. و لو كافاء المطيع على ما قام به و دخلت المساله فى حسابات النعم التى انعم الله بها عليه، و الوسائل التى هياها له، لما بقى له شى ء من عمله، مما لا يجعل له اى شى ء لحسابه الخاص، ثم لو بقى له ما يستحقه، فكيف تقابل المده الطويله الباقيه بقاء الابد فى النعم، المده القصيره الكافيه فى الطاعه، و هل هناك من تفسير لذلك الا بالكرم الالهى الذى لا يخضع للحسابات الماديه التى توازن بين العوض و المعوض بدقه، اما العاصى، فانه فى عصيانه المعبر عن تمرده على الله و كفرانه لنعمه، يمثل الانسان الذى لا يعيش معنى العبوديه فى ذاته، مما يفرض عليه ان ينزل الله به كل العقوبات التى اعدها لخلقه حتى فى بدايه التفكير بالمعصيه، لان المساله متصله بخصوصيات المعصيه فى تعلقها بموقف العبد مع ربه العظيم، بعيدا عن حجمها المادى، و لكن الله امهله و اعطاه الفرصه للرجوع فلا يبقى له اى عذر فى الامتداد فى هذا الخط المنحرف.
انه الرب العظيم الذى ينفتح الخلق على احسانه، و لا يخافون الا من عدله، فهو الذى لا يخاف العاصون جوره، و لا يخاف المطيعون من حرمانه، و هو المقصود- اولا و آخرا- للانفتاح على الامل الكبير فى المصير و الخط المستقيم للهدى و التوفيق الممتد فى الحياه للعمل الصالح، و هو صاحب المن على عباده، و الكريم الذى لا يقف كرمه عند حد.
اللهم ان احدا لا يبلغ من شكرك غايه الا حصل عليه من احسانك ما يلزمه شكرا، و لا يبلغ مبلغا من طاعتك- و ان اجتهد- الا كان مقصرا دون استحقاقك بفضلك، فاشكر عبادك عاجز عن شكرك و اعبدهم مقصر عن طاعتك.
اللهم انى عاجز عن شكرك:
يا رب، لقد امرت عبادك ان يشكروك، لا لحاجه بك الى ذلك، فانت الغنى عن وجودهم الذى صنعته، و عن كل ما يتصل به و ما يتحرك فيه، فذلك بعض فيوضاتك، فكيف تكون بحاجه الى كلمات يقولونها، او حركه يتحركون بها، او عمل يعملونه، و لكنك اردتهم ان يعبروا عن احساس العبوديه فى كيانهم، و عن وعى سر الخلق فى وجودهم، و عن امتداد النعمه فى حياتهم، حتى لا يغفلوا عن حقيقه وجودهم و معناه و غايته و منتهاه، و لا يبتعدوا عن سر الربوبيه فى ربوبيتك، و معنى الالوهيه فى الوهيتك، و انفتاح النعمه على حياتهم، لتتصل حياتهم بك، و ليعيشوا حضورك فى كل شى ء فى داخلهم و خارجهم.
ثم اردت لهم ان يشكروك على نعمك لتبادلهم شكرا بشكر، ليكون شكرك لهم نعمه جديده تفيضها عليهم من كرمك و لطفك، لان شكرهم لك يتمثل فى عبادتك و طاعتك و التعبير عن احساسهم بالامتنان لك، اما شكرك لهم فانه يعبر عن محبتك لهم و لطفك بهم و رعايتك لوجودهم و تقريبهم منك، ليكونوا بذلك من عبادك المقربين مما لا تبلغه نعمه، و لا يقترب اليه موقع عظمه فى الحياه.
و لكن عبادك لا يستطيعون بلوغ الغايه من شكرك مهما شكروك، لان نعمك اكبر من ان تشكر، فلا يساوى شكرك حجم النعمه و مقدارها و امتدادها و آثارها فى حياه الانسان.
ثم ان الشكر يستتبع النعمه و يجتذب اللطف منك، فقد قلت فى محكم كتابك: (لئن شكرتم لا زيدنكم) (ابراهيم: 7) و هكذا تتلاحق كلمات الشكر و تعابيره لتزيد النعم و تتكاثر، فيلهث الشكر وراء النعمه الماضيه لتنفتح للانسان نعمه جديده امام الشكر الحاضر، و هكذا يتحرك المومن فى رحله غير متناهيه ليجتذب شكرا جديدا، لتظل حركه الحياه عنده منطلقه فى حركه النعمه عندها، لينطلق الشكر فى حركه تصاعديه منفتحه على الله فى جميع مواقع عبادته.
و قد جاء فى تفسير على بن ابراهيم القمى، قال ابوعبدالله- جعفر الصادق- (ع): «ايما عبد انعم الله عليه بنعمه فعرفها بقلبه، و حمد الله عليها بلسانه، لم تنفذ حتى يامر الله له بالزياده، و هو قوله: (لئن شكرتم لا زيدنكم) (ابراهيم: 7). و روى ثقه الاسلام الكلينى باسناده عنه قال: «من اعطى الشكر اعطى الزياده، يقول الله عز و جل: (لئن شكرتم لا زيدنكم».
و هناك نقطه اخرى، و هى ان شكرى لك- يا رب- هى نعمه و فقتنى لها و اكرمتنى بها، لانه يفتح لى باب الوحى لنعمائك، و يوحى الى بالخضوع لعظمتك، و الانفتاح على مواقع كرمك و فيوضات لطفك، فيزيد لى بك معرفه و اليك قربا، و قد جاء عن رسولك سيد رسلك محمد (ص) مما روى الرواه عنه انه قال:
«انت يا رب اسبغت على النعم السوابغ، فشكرتك عليها، فكيف لى بشكر شكرك، فقال الله تعالى: تعلمت العلم الذى لا يفوته علم بحسبك ان تعلم ان ذلك من عندى».
و جاء عن الامام جعفر الصادق (ع): «اوحى الله عز و جل الى موسى (ع): يا موسى اشكرنى حق شكرى، فقال: يا رب، و كيف اشكرك حق شكرك، و ليس من شكر اشكرك به، الا و انت انعمت به على؟ قال: يا موسى، الان شكرتنى حين علمت ان ذلك منى».
و قد قال الشاعر:
شكر الا له نعمه
موجبه لشكره
و كيف شكر بره
و شكره من بره
و هكذا اعيش يا رب هذه المناجاه الخاشعه فى معنى شكرك: «ان احدا لا يبلغ من شكرك غايه الا حصل عليه من احسانك ما يلزمه شكرا»، بزياده النعمه بالشكر، او بالشكر الذى هو نعمه.
و اذا كان العباد عاجزين عن شكرك مهما بلغوا فى تعداده، فانهم عاجزون فى الوقت نفسه عن بلوغ الغايه مما تستحقه من عبادتك مهما اجتهدوا و بالغوا فى ذلك، لان العباده تمثل وسيله من وسائل الشكر العملى الذى ينفتح فيه المخلوق على جمالات الخالق و آلائه و نعمائه، فيخشع عقله و تخضع روحه، و يخفق قلبه، و يهتز كيانه فى عمليه انحناء داخلى يسجد فيه العقل و القلب و الاراده له، و يركع لجلاله و جماله فى كل نبضات مشاعره و حركه احساسه، و يقف فى موقف الاسلام الكلى له، كما ينحنى الجسد فى التعبير الحى عن اسلامه له فى وقوفه بين يديه و ركوعه و سجوده فى انحناءه تعبيريه لكل ارادته فى ما يامر به او ينهى عنه (و ان تعدوا نعمه الله لا تحصوها) (ابراهيم: 34). و لكن نعم الله لا تتناهى و آلاءه لا تحصى، فالانسان اذا فكر- بدقه- بالنعم التى افاضها الله عليه، و كيف تحركت فى بدايتها منذ انطلقت فى حركه الوجود حتى انتهت اليه فقامت بحاجاته ليرى ان اكثر من ظاهره كونيه تدخلت فى اعدادها و وضعها و تحريكها و تنظيمها فى اكتمال نموها و عناصرها و حركه الحياه فى داخلها...
لو فكر- بذلك- لا حس بانه لا يملك شكر نعمه واحده فى حجم الفضل الالهى عليه، فكيف بالنعم الكثيره التى لا تعد و لا تحصى؟
هذا حال الانسان الذى يجتهد فى العباده، و يبلغ بها مبلغا كبيرا، فكيف بالذى لا يكاد يقوم بفرائضه، فهو يعيش الاسترخاء الروحى و الجسدى و الطغيان العملى امام بطر النعمه، و امتداد الدعه، بحيث يدفعه ذلك الى الاستعانه بالنعم الالهيه على معصيه الله، و الى التقصير فى مسوولياته العباديه و فى حركه الطاعه و العبوديه.
ثم ان العباده مهما انفتحت عليك فانها لا تبلغ الغايه فى عناصرها الروحيه و الفكريه فى تمثلها لعظمتك، و استحضارها لحقك، و خشوعها امامك، و خضوعها لجلالك، فهى فى مستوى التقصير فى داخلها مهما كثرت اعدادها و تنوعت نماذجها و امتدت مواقعها، فان فضلك اعظم، و نعمك اكثر، و احسانك افضل، و حقك اشمل، فكيف يبلغ العابدون درجه شكرك و امتداد طاعتك.
اللهم اننا مفتقرون الى مغفرتك:
يا رب، هل يملك الناس ان يطالبوك بالمغفره اذا استغفروك، و هل يستحقون- عليك- الرضوان اذا استرضوك، و هل لخلقك عليك حق فى هذا او ذلك من خلال طبيعه عملهم لك و انفتاحهم عليك؟
انك الخالق و هم المخلوقون، فانت تملك ما لا يملكونه من انفسهم، فاعمالهم متحركه فى ملكك، فلا شى ء فى كل ذلك، اما انفتاحهم عليك او سوالهم لك، فانه من خلال العقل الذى ابدعته، و اللسان الذى خلقته، فباى حق يطالبون، ليستحقوا عليك المغفره و الثواب، و باى وجوب يلزمونك، ليفرضوا عليك القبول و الرضوان.
انك المتفضل عليهم فى كل عطائك المادى و المعنوى، و المتطول عليهم فى كل احسانك، فليس بين الخالق و المخلوق ما يستحق به المخلوق على الخالق شيئا ازاء عمله، و عوضا امام جهده، فهو المملوك له بنفسه و بجوارحه و بعمله، بل هو تفضل من خلال فضله و نعمه و رحمته، فقد جعلت لكل انسان مطيع حقا من عندك فى الثواب، و لكل عبد من عبادك حصه من فضلك من المغفره و الرضوان، و هكذا كان الثواب استحقاقا بالتفضل، فهو التفضل من حيث المبداء و الحق بالواسطه.
و يتعاظم الفضل- يا رب- منك، و تتصاعد مواقع اللطف لديك، فيتمثل ذلك فى شكرك لعبادك على طاعتهم لك، فتعاملهم معامله الشاكر، فتقابلهم بالكثير من الثواب فى مقابل اليسير من العمل، فكان النعيم الخالد امام الجهد المحدود و الطاعه المعدوده، و كانت الحسنه بعشر اضعافها كما لو كان الانسان المطيع هو المنعم و انت الشاكر للنعمه، و قد و صفت نفسك بالشكور فقلت سبحانك: (انه غفور شكور) (فاطر: 30) (ان ربنا لغفور شكور) (فاطر: 34)، و قلت فى سوره الشورى: (و من يقترف حسنه نزد له فيها حسنا ان الله غفور شكور) (الشورى: 23)، و قلت فى سوره التغابن: (ان تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم و يغفر لكم و الله شكور حليم) (التغابن: 17).
و هكذا كنت الرب الشاكر لعباده كل طاعتهم، و المثيب لهم على يسير ما قدموه من جهد فى سبيلك، مما عبروا به عن شكرهم العملى لك، كما لو كان الامر اختياريا لهم يملكون الامتناع منه بعيدا عنك، فكان الثواب على ذلك و الجزاء العظيم عليه، منطلقا من المكافاه و المجازاه، و لكن لو عقلوا واقع الخلق فى كياناتهم و سر القدره فى اجسادهم، لعرفوا انهم يتحركون بقدرتك التى منحتهم اياها، و يطيعونك بارادتك التى حركتها فى طاقاتهم، فانت المالك لاسباب الاعمال و الرابط- بحكمتك- بين السبب و المسبب فى قانون السببيه الذى اودعته فى النظام الكونى و الانسانى و جعلت بيد الانسان حركه السبب لينتقل منها الى النتائج فى واقع المسبب، فانت فى عمق العقل و الحركه و الاراده و العمل فى دائره الاختيار المنطلق من نعمه القدره فى حياه الانسان، فكيف يرى لنفسه حقا عليك، و هو لا يملك الامتناع عنه، و كيف يملكون- بالاستقلال، ايجاده و ذلك من خلال حركه النظام الطبيعى فى وجودهم، تماما كما هو فى وجود الكائنات الاخرى.
فقد ملكت- يا رب- كل وجودهم بكل تفاصيله و جزئياته فى الحركه و السكون ، و كل امرهم فى كل ما يفيضون به و يتحركون معه، فلا يملكون منه شيئا فى معنى الذات قبل ان يملكوا عبادتك القائمه على القوه، و المنطلقه من خلال القدره، و هو هبه منك، و نعمه من فضلك.
و قد اعددت بذلك ثوابهم قبل التحرك الارادى فى طاعتك، لانك انت الذى وفقتهم له، و هيات لهم الوسائل لذلك، و مهدت لهم الظروف و الارضيه التى ساعدتهم على الافاضه فيه، فكنت العالم بما يفعلونه قبل ان يفعلوه، فوضعت الثواب قبل العمل، لانك تعرف حركه الانسان فيه مما لا يتخلف فيه المعلوم عن العمل من دون ان يبتعد عن الاختيار.
و هذا هو الذى ينطلق من خلال سنتك الالهيه فى الافضال على عبادك، و عادتك الربوبيه فى الاحسان للخلق كله و العفو عن الناس فى كل اخطائهم.
كل البريه معترفه بعدلك:
يا رب، ان وعى الناس كلهم لحركه العدل فى حكمك من خلال حكمه التشريع فى دينك جعلهم فى موقف الاعتراف الواعى بانك غير ظالم فى عقابك للمنحرفين منهم على انحرافهم عن خطك المستقيم و تمردهم على اوامرك و نواهيك، و ابتعادهم عن خط العبوديه الخالصه لك، لان ارادتك فى ذلك كله كانت فى خط العدل الخالص من ايه شائبه للظلم.
و ان احساسهم بالفضل الواسع الممتد فى حياتهم فى امتداد العافيه من البلاء فى اجسادهم و عقولهم و انطلاقاتهم فى الحياه، من دون استحقاق ذاتى او عملى لهم فى ذلك، جعلهم فى موقع الشهاده لك بالتفضل على عبادك، و فى مواقف الامتنان لك على فضلك و احسانك.
و فى هذا كله يتحسسون فى عبادتهم لك، و فى سعيهم للحصول على رضاك، الاقرار فى اعماق نفوسهم بانهم مقصرون عن اداء حقك فى ما يجب لك من العباده و الطاعه و الشكر الجزيل، لانهم مهما بلغوا من درجات العبوديه فلن يبلغوا مدى ذلك.
ان فطره انسانيتهم المنفتحه على الايمان بتوحيدك و الخضوع لمواقع العظمه فى ذاتك، تفتح لهم فى داخل عقولهم و فى حركه حياتهم كل الابواب التى تنفتح على طاعتك، و كل آلافاق التى تتسع للخضوع لك، فلولا الشيطان الذى يوسوس لهم، و يزين لهم المعصيه، و ينحرف بهم عن الطاعه من خلال تحريكه لعناصر الضعف الكامنه فى نفوسهم، و ابعادهم عن السعى الى مواقع القرب منك بايقاعهم فى حبائله من خلال غرائزهم المتحركه فى اجسادهم و اطماعهم الواسعه فى امانيهم حتى اوقعهم فى الغفله عنك، و نسيانهم لذكرك، و تغييره للصوره الحقيقيه للفكر الحق و الخط المستقيم من خلال الجهل الذى يعيشونه، و التخلف الذى يفيضون فيه، و التعقيدات الفكريه التى تعقد لهم افكارهم و تصوراتهم للاشياء.
لو لا هذا المخلوق الشرير الذى كان اول متمرد عليك، فى تكبره على خلقك، و فى انحرافه عن الامتثال لامرك، و كانت حكمتك ان تمهله الى يوم الوقت المعلوم، ليتحرك الصراع بين الخير المنطلق من رحمتك، و الشر المتحرك من وسوسته، ليهلك من هلك عن بينه، و يحيى من حى عن بينه، و لتكون الطاعه من موقع الاختيار الحر الواعى القوى فى ساحه الصراع، لانك اردت للانسان ان ينطلق فى طاعتك من خلال المعاناه الداخليه فى قضيه الخير و الشر، ليعى الحق من موقع معرفته للباطل، و رفضه للشر من قاعده وعيه للخير، لو لا هذا المخلوق الذى توعد عبادك بان يقعد لهم صراطك المستقيم، و ياتيهم من بين ايديهم و من خلفهم و عن ايمانهم و شمائلهم ليبعدهم عن حقك فى شكر نعمك، لولا خداعه لهم عن طاعتك لما عصاك احد منهم، لان الحق الكامن فى فطرتهم يدفع بهم الى خط العبوديه فى مواقع الطاعه.
و لو لا انه صور لهم الباطل فى صوره الحق، و شوه لهم ملامح الحق فى مثاله من خلال القدره الفنيه على اللعب بالصوره فى زخارفه و خطوطه الخفيه، لما ابتعد احد منهم عن طريق الهدى، و لما سار احد منهم فى خط الضلال المنفتح على الهلاك.
و هكذا نجد فى اعماقنا ينابيع الفطره الصافيه، و فى عقولنا آفاق الحق الباحث عنك، و فى مشاعرنا بحار الحب الخالص لك التى نسبح فى امواجها الهادئه، فاجعلنا ممن يحصل على توفيقك فى ذلك كله و اعذنا من الشيطان الرجيم.
سبحانك ما اكرمك فى معامله من اطاعك او عصاك:
يا رب... و ينطلق وجدانى و يسمو و يصعد، ليتطلع اليك فى سماوات عظمتك، و مواقع كرمك، فيعيش فى وضوح الرويا، ليتمثل عظمتك فى كرمك البارز فى امتداده فى تعاملك مع الطائعين و العاصين، فتتحرك التسابيح المنفتحه على آفاق العظمه فى ذاتك.
فها انت- يا رب- و انت المنعم على عبادك، تتفضل على المطيع بالشكر له على ما فعله من الطاعه مما قدمته له من عناصر القوه و وسائل العمل و هدايه الفكر و وعى الايمان و مواقع اللطف.
اما العاصى المتمرد عليك المنحرف عنك، فقد اخرت عقابه و امهلته فى امتداد العمر لتمنحه فرصه بعد اخرى ليراجع حسابه و يتراجع عن تمرده و انحرافه، لانك تحب له ان يستيقظ بعد الغفله من خلال مرور الزمن الذى قد يحقق للانسان بعض عوامل اليقظه و يفتح له آفاق الصحوه.
و هكذا تفضلت على المطيع بما لا يستحق من ثوابك فى ذاته، و على العاصى فى تاخير عقابه الذى يستحقه بمعصيته له، من دون ان يكون لهذا حق فى الثواب او يكون لذاك حق فى الامهال، تفضلا منك و لطفا و رحمه و كرما، لانك لو اردت ان تجعل النتائج خاضعه للحسابات الدقيقه الماديه المرت كزه على الموازنه بين الامور فى طبيعتها، فلا يستحق المطيع عليك شيئا لانه لم يقدم شيئا من ذاته مما قدمه من طاعتك، لانه لا يملك شيئا من نفسه، فكل جهده فى عقله و روحه و جسده منك لا يستقل بشى ء منه، فلا حق له فى ثوابك و لا فى نعمتك، فكان من طبيعه الموازنه ان يفقد ثوابك و ان تزول عنه نعمتك اذا كانت الامور مبنيه على ذلك، و لكنك- يا رب- و انت الكريم الذى يتفضل على عباده بالعطاء من خلال رحمته، جعلت له الحق- بفضلك- فى الثواب على عمله، و زدته على ذلك بان اعطيته الثواب الخالد فى امتداد الخلود فى الزمن فى مقابل العمل المحدود فى طبيعته و فى زمانه ، و منحته الامتداد فى النعيم فى المدى الذى لا نهايه له امام الجهد الذى تحاصره حدود الزمن من كل جانب، هذا فى الخط العام الذى يواجه المساله من خلال طبيعه الحق و طبيعه الثواب.
متى كان عبدك مستحقا للثواب بذاته؟
اما اذا اردنا ان ندخل فى التفاصيل فما ذا نرى؟
اننا، فى ملاحقتنا لحياه هذا الانسان فى كل جزئياتها، نرى انه عاش متقلبا فى مواقع رزقك مما رزقته من طعام و شراب و لباس و مسكن، و مما اودعته فى داخل ذاته و هياته فى نظام الكون من العناصر التى منحته القوه، و لولاها لما قوى على ايه حركه للطاعه فى حياته.
فاذا انتقلنا الى الوسائل التى استخدمها فى كل عمله و الالات التى حركها فى سبيل الحصول على مغفرتك، مما اعددته له فى مواقع حياته فى الداخل و الخارج، فاننا نرى انه لا يملك ايه قدره على القيام بذلك بدونها.
انك لم تدخل معه- يا رب- فى حسابات الرزق الذى رزقته اياه امام الجهد الذى بذله لتسقط فى ثوابه حجم الرزق الذى اعطيته له، و لم تستقص الحسابات الدقيقه فى استثناء تلك الادوات من طبيعه الثواب الذى منحته له، و لو انك جعلت القضيه خاضعه لذلك لما بقى له شى ء من جهده و كدحه، و لضاع عليه كل شى ء مما سعى فيه، لانه لم يقدم اى جهد من ذاته، لان كل جهده هو هبه من فضلك و نعمه من نعمك، هذا فى النعم الصغيره التى تقف فى مواجهه طاعته، اما فى النعم الكبيره التى لا تعد و لا تحصى، فانها تبقى بدون مقابل، فيبقى رهينه- من خلالها- بين يديك كدين يثقل ذمته و يرتهن حياته.
و يقف السئوال فى نهايه المطاف فى تعجب و استنكار: متى كان عبدك المطيع مستحقا للثواب بذاته؟ و يكبر النفى فى الجواب بكلمه (لا) كبيره فى المعنى و الصوت، ليلا حق السئوال متى؟
و هكذا تكون الصوره فى حسابات كرمك بالنسبه الى المطيع الذى اطاعك و تعبد لك.
فما هى الصوره فى حسابات العاصى؟
انت الذى امهلت العاصى و اخرت العقوبه:
اما العاصى- يا رب- اما هذا الانسان الذى اختنق فى سجن ذاته، و غرق فى و حول شهواته، و امتد فى متاهات ضلاله، اما هذا الانسان الذى غلبت شهوته عقله، و اسقطت غرائزه ارادته، و اطفات اطماعه اشراق بصيرته.
اما هذا الذى عصى امرك فلم يفعل ما امرته، و واقع نهيك فارتكب ما نهيت عنه.
اما هذا الانسان المتمرد الذى يستحق عقابك و يستوجب نقمتك، فانك لم تعامله بالتعجيل فى عقابك تنفيذا لنقمتك، لانك اردت ان تمنحه فرصه للتراجع، و مهله للتفكير، ليتدبر امره، و ليستقبل مصيره بالوعى المنفتح على النتائج السلبيه فى الاصرار على المعصيه، و النتائج الايجابيه فى الانتقال الى مواقع الطاعه، فقد تكون المعصيه نزوه طارئه و حاله عابره، يطوف الشيطان فيها بالانسان فى لحظه الغفله ليبعده عن خط التقوى، فاذا انتقل من جو الى آخر، و من موقع الى موقع جديد، فقد يستبدل حال المعصيه بحال الانابه الى الطاعه، فانت الرحيم بعبادك، و انت الذى تسعى رحمته امام غضبه، و انت بان ترحم اولى عندك بان تعاقب. فكان امهالك و تاخيرك لعقابه- و هو المستحق له- فضلا منك و لطفا من رحمتك.
و لو درس هذا الانسان نتيجه خطاياه، لعرف انه كان يستحق- منذ اراده المعصيه فى تفكيره، و التحرك نحوها بخطواته- كل ما اعددت لخلقك من العقوبه، لان القضيه فى حجم العقوبه ليست فى المدى الذى تبلغه فى حجم الواقع، بل فى طبيعه المعصيه امام مقام الرب فى نعمه التى لا تحصى، و آلائه التى لا تعد، و عظمته التى لا يبلغها اى موقع آخر للعظمه، و رحمته التى انطلقت من وجود الانسان الى نهايه عمره، و لهذا كانت عظمه المعصيه بعظمه من عصاه لا بحجم العمل فى ذاته، فهى التى توحى دلالتها بالتمرد و الانحراف عن الله كما تبتعد عن الخط المستقيم الذى جعله الله برنامجا للحياه كلها فى واقع الانسان و ما حوله.
و هكذا كان التاخير للعقوبه، فى موقع الاستحقاق للمعاجله و الامهال فى امتداد الاوضاع الطبيعيه فى حياته للحصول على فرصه الانابه الى الله للحصول على عفوه و التخلص من سطوات نقمته.
و هكذا كان ذلك تجسيدا لترك حقك، و رضى بدون ما يجب لك فى عظيم سلطانك و امتداد قدرتك.
فمن اكرم منك- يا رب- فقد خلقت و مننت و انعمت و رحمت و عافيت و سترت و مهلت، و من الاشقى ممن كان هلاكه بامرك و على يدك ممن استحقوا الهلاك بكفرهم و عصيانهم، «و هل يهلك الا القوم الظالمون».
(لا)، فليس هناك احد يدانى كرمك فى الرحمه، و ليس هناك احد يساوى فى الشقاء من هلك عليك، (من) فاذا كان موجودا فمن هو؟
فيا صاحب البركه الناميه التى تزيد فى الخير، و يا صاحب العلو الذى لا يعلو عليه شى ء فى الوجود، تباركت و تعاليت، هل توصف الا بالاحسان فى كل افعالك فى خلقك، و يا صاحب التنزيه و التقديس الذى تنزه عن كل ما يشين و يعيب، و تقدس عن كل ما يودى الى النقص، لا يخاف منك الا العدل، فانت لا تظلم من عصاك و لا تغفل عن ثواب من ارضاك.
اللهم هب لى املى:
يا رب، ان املى لك كبير كبير، فهب لى الامل كله حتى تكون حياتى املا يمتد و يتجسد من خلال منك، و ان تطلعى الى هداك واسع سعه رحمتك، و رحب رحابه لطفك، فزدنى من هداك حتى لا يبقى مجال للزياده، لاننى استهدف من ذلك كله ان تبقى مسيرتى فى عملى حركه فى التوفيق المنفتح على اشراقه المعرفه بك، و روحيه الالتزام بخطك المستقيم، انك المنان على عبادك بكل مننك، الكريم فى كل عطاءاتك، يا ارحم الراحمين.