فارسی
شنبه 22 دى 1403 - السبت 10 رجب 1446
قرآن کریم مفاتیح الجنان نهج البلاغه صحیفه سجادیه
0
نفر 0

مع الامام زین العابدین (ع) فى دعاء عید الفطر و الجمعه

مع الامام زين العابدين (ع) ‌فى‌ دعاء عيد الفطر ‌و‌ الجمعه
 
 كل يوم ‌لا‌ يعصى الله فيه فهو عيد:
 
 .. ‌ان‌ يكون الفطر الذى يعقب شهر رمضان عيدا للفرح، معناه ‌ان‌ الاسلام يريد للعيد ‌ان‌ يختزن ‌فى‌ مضمونه الداخلى بعدا روحيا ‌فى‌ الانفتاح على الله ‌فى‌ موقع الطاعه لاوامره ‌و‌ نواهيه، ‌و‌ ‌فى‌ الايحاء للذات بحركه الفرح ‌فى‌ انفتاحها على المسووليه الشرعيه، ليجد الانسان المسلم نفسه ‌فى‌ حاله روحيه مزدوجه الفرح ‌من‌ خلال معنى العبوديه ‌فى‌ موقع الانسان الذى يسمو بانه عبدالله الذى يعيش حريه ارادته امام شهواته المنحرفه التى تقوده الى السقوط الروحى، ‌و‌ امام الاخرين الذين يريدون منه ‌ان‌ يقع فريسه اهوائهم ‌و‌ اطماعهم الشيطانيه التى تودى ‌به‌ الى الوقوع تحت تاثير عبوديته لهم، المنطلقه ‌من‌ حاجته اليهم.. ‌و‌ هكذا تكون العبوديه لله حركه فى معنى الحريه امام الناس، ‌و‌ امام الشيطان الذى يدعوه ليكون ‌من‌ اصحاب السعير.. ثم هناك الاحساس بسر الالوهيه التى هى ‌سر‌ العمق ‌فى‌ شعوره بوجوده ‌و‌ ‌فى‌ حركته ‌فى‌ تفاصيل هذا الوجود، عندما يتحول الى احساس بالشفقه ‌و‌ الامان ‌و‌ الغنى الروحى، ‌و‌ الى انفتاح على الافاق الواسعه ‌من‌ الامل الكبير بكل معنى السعاده ‌فى‌ الدنيا ‌و‌ الاخره، لان الله ‌هو‌ رحمن الدنيا ‌و‌ الاخره ‌و‌ رحيمهما، ‌و‌ الى طاقه روحيه هائله توحى بالشجاعه القويه امام كل تهاويل المستقبل ‌من‌ خلال معنى التوكل على الله ‌فى‌ ايحاءاته الشعوريه ‌او‌ الفكريه، بان الله يتكفل برعايه الانسان ‌فى‌ كل ‌ما‌ يتجاوز قدرته ‌من‌ تطورات الحياه الخفيه التى ‌لا‌ يملك الانسان ‌ان‌ يرصدها ‌فى‌ ‌ما‌ ينتظره ‌من‌ الزمن القادم مما قد يسقطه ‌فى‌ مهوى الحيره لو ‌لا‌ اللجوء الى الله الذى يملك الامر كله.
 ‌و‌ ‌فى‌ هذا الجو تاتى النتائج الايجابيه لحركه المسووليه ‌فى‌ الفكر ‌و‌ الشعور ‌و‌ العمل ‌من‌ خلال صيام شهر رمضان ‌و‌ ‌ما‌ فيه ‌من‌ اعمال روحيه تتصل بالعباده الصلاتيه ‌و‌ الدعائيه ‌و‌ الذكريه، ‌و‌ ‌من‌ اعمال خيريه ‌فى‌ ‌ما‌ استحبه الله ‌من‌ التصدق ‌و‌ قضاء حوائج الناس ‌و‌ غير ذلك.
 ‌و‌ كان معنى هذه النتائج الحصول على القرب ‌من‌ الله ‌من‌ خلال قبوله الطاعه.. مما يعنى ‌ان‌ الانسان قد اجتاز الامتحان الالهى ‌فى‌ ‌ما‌ حمله الله ‌من‌ المسووليه ‌فى‌ ذلك كله.
 ‌و‌ هذا ‌ما‌ عبر عنه الامام على اميرالمومنين (ع)، ‌فى‌ ‌ما‌ روى عنه، «انما ‌هو‌ عيد لمن قبل الله صيامه ‌و‌ قيامه»، ثم يطلق الفكره العامه ‌فى‌ المضمون الاسلامى لمعنى العيد ‌فى‌ امتداداته ‌فى‌ الزمن، فلا يختص بزمان دون زمان.. «و كل يوم ‌لا‌ يعصى الله فيه فهو عيد».
 ‌و‌ بذلك يمكن تجاوز المعنى الرسمى للعيد ‌فى‌ اليوم المعين المخصص له الى المعنى الاسلامى الشامل لكل حركه الطاعه الايجابيه ‌فى‌ مسووليه الانسان امام ربه، ليكون الامتناع عن معصيه الله ‌فى‌ كل يوم مناسبه لاجتذاب الحاله الشعوريه ‌فى‌ عمق الذات ‌فى‌ الفرح الروحى الذى يغمرها، لانها حصلت على محبه الله ‌فى‌ هذا اليوم ‌او‌ ذاك، فيلتقى عيد الطاعه ‌فى‌ واجبات اليوم، بعيد الطاعه ‌فى‌ واجبات الشهر ‌فى‌ شهر رمضان، لينطلقا ‌من‌ منطلق واحد، ‌و‌ ‌هو‌ عيد القرب ‌من‌ الله ‌من‌ خلال طاعته.
 
 العيد ليس استغراقا ‌فى‌ الاحاسيس الماديه التى تنسى الانسان ربه:
 
 ‌و‌ قد نستوحى ‌من‌ ذلك كله ‌ان‌ الاسلام يريد للانسان ‌فى‌ عيد الفطر ‌ان‌ ‌لا‌ يستسلم للهو ‌و‌ للعبث ‌و‌ اللعب ‌فى‌ اجواء احتفاله بالعيد، ليفقد ‌فى‌ هذا اليوم ‌ما‌ حصل عليه ‌فى‌ الشهر كله، بل يريد له ‌ان‌ يستقبل عيده بالمزيد ‌من‌ الاهتمام بالنتائج الروحيه، ‌و‌ الارباح الاخرويه، ‌فى‌ آفاق رضوان الله ‌و‌ ثوابه الذى ينتظره ‌فى‌ هذا اليوم، كما ينتظر الاطفال عيديتهم ‌فى‌ يوم العيد.
 ‌و‌ قد نجد هذا المعنى ‌فى‌ الحديث المروى عن بعض ائمه اهل البيت (عليهم السلام) ‌و‌ ذلك ‌فى‌ ‌ما‌ روى عن الامام الحسن ‌بن‌ على (ع) انه مر بقوم يلعبون ‌فى‌ عيد الفطر فقال:
 «ان الله ‌عز‌ ‌و‌ ‌جل‌ جعل شهر رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه بطاعته الى رضوانه، فسبق فيه قوم ففازوا، ‌و‌ تخلف آخرون فخابوا، فالعجب كل العجب ‌من‌ الضاحك اللاعب ‌فى‌ اليوم الذى يثاب فيه المحسنون ‌و‌ يخيب فيه المقصرون».
 ‌و‌ ليس معنى ذلك ‌ان‌ يمتنع الانسان ‌فى‌ العيد ‌من‌ ممارسه بعض وسائل الفرح الذى يرتاح فيه الجسد، ‌و‌ ينتعش فيه القلب، ‌و‌ ينفتح فيه الاحساس على ايحاءات البهجه ‌و‌ السرور ‌فى‌ ‌ما‌ اعتاده الانسان ‌فى‌ تعبيره عن الفرح مما احله الله ‌من‌ ذلك لعباده ‌فى‌ حاجاتهم الجسديه الى المتعه ‌و‌ اللذه ‌و‌ اللعب ‌و‌ الانطلاق مع حركه المشاعر المتنوعه ‌فى‌ الاجواء الانسانيه الداخليه، بل ‌ان‌ معناه، ‌ان‌ ‌لا‌ يكون العيد، ‌فى‌ ‌ما‌ ياخذه الانسان ‌من‌ ذلك، استغراقا ‌فى‌ الاحاسيس الماديه الغريزيه التى ينسى معها ربه، ‌و‌ يبتعد فيها عن ‌خط‌ المسووليه، ليذهب، ‌فى‌ العيد، كل ‌ما‌ حصل عليه ‌من‌ نتائج السمو الروحى ‌فى‌ القرب ‌من‌ الله.
 ‌و‌ لعل هذا ‌هو‌ الاساس ‌فى‌ تشريع صلاه العيد التى اريد للناس ‌ان‌ يلتقوا فيها جميعا على الاجتماع ‌فى‌ مشاعر الفرح الروحى بين يدى الله، لتتاكد اخوتهم ‌فى‌ داخل هذا الجو الروحانى الذى يشعرون فيه بانعدام الحواجز بينهم ‌فى‌ موقفهم امام الله على اساس الصفه الجامعه، ‌و‌ هى انهم عباد الله الذين قاموا بامتثال اوامره ‌فى‌ هذا الشهر المبارك، ليكون ذلك مقدمه للثبات على هذا النهج ‌فى‌ ‌ما‌ يستقبلونه ‌من‌ واجبات ‌فى‌ امتداد الزمن القادم، ثم يستمعون الى حديث الايمان الذى ينفتح على كل قضاياهم الاسلاميه ‌فى‌ حركه الحياه ‌و‌ علاقاتهم الانسانيه ‌فى‌ حركه المسووليه، ‌و‌ لينفتحوا على الله ‌فى‌ آفاق الدعاء المنطلق ‌فى‌ اجواء الله، ‌فى‌ رحاب عظمته، ‌و‌ ‌فى‌ مواقع نعمته، ليزدادوا بذلك معرفه منه ‌و‌ قربا له.
 ‌و‌ هذا ‌هو‌ ‌ما‌ عاشه الامام على ‌بن‌ الحسين زين العابدين (ع)، فقد قام عندما انصرف ‌من‌ صلاته ‌فى‌ يوم الفطر، ‌و‌ ‌فى‌ يوم الجمعه الذى يحمل بعض معانى العيد كما تحمل صلاته معنى العباده الجماعيه العامه، فقال:
 ‌يا‌ ‌من‌ يرحم ‌من‌ ‌لا‌ يرحمه العباد، ‌و‌ ‌يا‌ ‌من‌ يقبل ‌من‌ ‌لا‌ تقبله البلاد، ‌و‌ ‌يا‌ ‌من‌ ‌لا‌ يحتقر اهل الحاجه اليه، ‌و‌ ‌يا‌ ‌من‌ ‌لا‌ يخيب الملحين عليه، ‌و‌ ‌يا‌ ‌من‌ ‌لا‌ يجبه بالرد اهل الداله عليه، ‌و‌ ‌يا‌ ‌من‌ يجتبى صغير ‌ما‌ يتحف به، ‌و‌ يشكر يسير ‌ما‌ يعمل له، ‌و‌ ‌يا‌ ‌من‌ يشكر على القليل، ‌و‌ يجازى بالجليل، ‌و‌ ‌يا‌ ‌من‌ يدنو الى ‌من‌ دنا منه، ‌و‌ ‌يا‌ ‌من‌ يدعو الى نفسه ‌من‌ ادبر عنه، ‌و‌ ‌يا‌ ‌من‌ ‌لا‌ يغير النعمه ‌و‌ ‌لا‌ يبادر بالنقمه، ‌و‌ ‌يا‌ ‌من‌ يثمر الحسنه حتى ينميها ‌و‌ يتجاوز عن السيئه حتى يعفيها.
 
يا ‌من‌ يرحم ‌من‌ ‌لا‌ يرحمه العباد:
 
-    ‌يا‌ رب- كيف لى ‌ان‌ اسمو ‌و‌ ارتفع اليك ‌فى‌ كل تصوراتى الانسانيه ‌فى‌ آفاق المعرفه المنفتحه عليك ‌فى‌ آفاق عظمتك ‌و‌ مواقع نعمك، ‌و‌ هل يملك الانسان المحدود ‌ان‌ يتصور ربه الذى ‌لا‌ تخضع صفاته لاى ‌حد‌ لانها تسمو ‌فى‌ آفاق المطلق .. ‌و‌ لكنى- ‌يا‌ رب- اتصور كل ‌ما‌ حولى ‌من‌ الناس ‌من‌ عبادك الذين قد يحملون بعض صفات الكمال ‌فى‌ علاقاتهم ببعضهم البعض، ‌و‌ اتصور نفسى ‌فى‌ حاجاتها ‌و‌ اعمالها ‌و‌ مواقعها ‌فى‌ ‌ما‌ اتطلع اليه ‌من‌ قضايا ‌و‌ ‌فى‌ ‌ما‌ ارغب فيه ‌من‌ نتائج، ‌او‌ اعيشه ‌من‌ اهتمامات..
 ثم ادخل ‌فى‌ المقارنه، لو تطلعت الى الناس ‌فى‌ اوضاعى كلها ‌و‌ ‌فى‌ كل المتغيرات ‌و‌ التعقيدات ‌و‌ الملابسات، فما هى النتائج، ‌و‌ كيف تكون الامور؟
 ‌و‌ اذا تطلعت اليك، ‌و‌ رغبت ‌فى‌ ‌ما‌ عندك، ‌و‌ ‌او‌ كلت امرى الى ارادتك ‌فى‌ مجالات عطائك، ‌فى‌ كل ‌ما‌ يصيبنى ‌من‌ آلام الحياه ‌و‌ مشاكلها، فكيف اكون.. ‌و‌ كيف تكون النتائج؟
 فاذا ‌بى‌ اجد حسابات المخلوقين معى خاضعه لاهوائهم ‌و‌ لتعقيداتهم ‌و‌ لحساباتهم الدقيقه المحدوده الخاضعه لمصالحهم بعيدا عما ‌هو‌ معنى العطاء بلا حساب، ‌و‌ اجدك- ‌يا‌ رب- ‌فى‌ لطفك ‌و‌ رحمتك ‌و‌ عطفك، تتسع رحمتك لعبادك ‌و‌ ينطلق لطفك ‌فى‌ ارضك ‌و‌ سمائك، ‌و‌ يعيش الكون كله ‌فى‌ سحائب عطفك ‌و‌ حنانك، فانت ترزق ‌من‌ تشاء بغير حساب ‌و‌ ترزق الناس ‌من‌ حيث ‌لا‌ يحتسبون، ‌و‌ تحرسهم ‌من‌ حيث ‌لا‌ يحترسون، ‌و‌ توفى الصابرين اجرهم بغير حساب.. فانا معك ‌فى‌ العطاء المتنوع ‌فى‌ كل شى ء ‌من‌ دون حدود، فكيف اتركك ‌فى‌ مواقع رضاك، ‌و‌ اتبع عبادك الذين تتعقد كل حساباتهم ‌فى‌ مجالات عجزهم ‌و‌ ضيقهم، ‌فى‌ ‌ما‌ يريدونه منى ‌من‌ الابتعاد عنك..
 ‌و‌ لذلك جئت اليك اناجيك ‌من‌ كل عقلى ‌و‌ قلبى ‌و‌ شعورى، لاجدك ‌فى‌ الوهيتك المنفتحه بالعطاء المطلق على كل عبادك، ‌و‌ لاوحى لنفسى بكل ‌ما‌ تعرفت عليه ‌من‌ صفاتك التى عشت ‌فى‌ حياتى كل معانيها، فكانت المعرفه ‌فى‌ مجالاتها وجدانا يهز كيانى، لافكرا يختبى ء ‌فى‌ زوايا عقلى. فانا انسان كبقيه الناس الذين يتخبطون ‌فى‌ مشاكلهم ‌و‌ يسيئون ‌فى‌ تصرفاتهم، ‌و‌ يبتعدون عن التوازن ‌فى‌ اقوالهم ‌و‌ افعالهم، ‌و‌ قد يعيشون الخطيئه مع الناس ‌فى‌ علاقاتهم معهم، كما يعيشون الخطيئه مع ربهم.. ‌و‌ قد تضعهم كل هذه الاوضاع السلبيه ‌فى‌ الموقف الصعب الذى ‌لا‌ يستحقون معه الرحمه، فيرفضهم الناس لانهم ينظرون اليهم نظره سلبيه، كما لو كانوا ‌من‌ المخلوقات التى ‌لا‌ تستحق الاحترام، ‌و‌ ليست جديره باى شى ء ايجابى ‌فى‌ دائره الشعور الطيب ‌و‌ التقدير المتوازن.
 ‌و‌ هكذا ‌لا‌ اجد للرحمه ‌اى‌ باب ‌فى‌ مشاعرهم تجاهى، فاحس بالغربه الموحشه القاتله تاكل وجدانى ‌و‌ تفترس روحى، ‌و‌ تقضى على الطمانينه ‌فى‌ كيانى.. فالجاء اليك- وحدك- ‌و‌ انا هارب ‌من‌ الناس حولى، لاننى اجد ‌فى‌ رحمتك معنى ‌لا‌ يرتفع المخلوقون اليه، فيما ‌هو‌ السمو الذى ‌لا‌ تبلغه آفاقهم.. فاذا كانوا يتحركون ‌فى‌ مضمون الرحمه ‌من‌ منطلق التعويض العاطفى ‌او‌ النفعى ‌او‌ المعنوى، فلا يقدمونها مجانا لمن ‌لا‌ يحصلون منه على شى ء ‌من‌ هذا القبيل، فان رحمتك وسعت كل شى ء، فقد اعطيتنى وجودى الذى ‌لا‌ استحقه ‌فى‌ ذاتى، ‌و‌ منحتنى بركته ‌فى‌ كل مواقعه ‌و‌ آفاقه، فانت الذى غذيتنى ‌و‌ ربيتنى ‌و‌ اعطيتنى ‌و‌ فتحت لى كل ابواب الحياه ‌فى‌ ‌ما‌ فتحته لى ‌من‌ ابواب نعمك.. ‌و‌ انا الذى عصيتك ‌و‌ تمردت عليك ‌و‌ انتهكت حرمتك ‌و‌ ابتعدت عن مواقع محبتك ‌و‌ مواقف رضاك، فلم اكن اهلا ‌ان‌ ابلغ رحمتك، ‌و‌ لكن رحمتك التى هى ‌سر‌ اللطف ‌فى‌ ذاتك كانت اهلا لان تبلغنى لانها سبقت غضبك..
يا ‌من‌ ‌لا‌ يحتقر اهل الحاجه اليه:
 
 ‌و‌ هكذا جئت اليك لترحمنى ‌يا‌ ‌من‌ يرحم ‌من‌ ‌لا‌ يرحمه العباد، ‌و‌ اقبلت عليك لتقبلنى ‌يا‌ ‌من‌ يقبل ‌من‌ ‌لا‌ تقبله البلاد، ‌و‌ اذا كان الناس يحتقرون اهل الحاجه اليهم فيستخفون بهم ‌و‌ يهملونهم ‌و‌ يهينونهم، لان الحاجه مظهر الذل ‌و‌ الضعه ‌و‌ الانحطاط ‌فى‌ نظر الاغنياء القادرين الذين تتعلق حاجات الناس باموالهم، انطلاقا ‌من‌ النظره الاستعلائيه الاستكباريه التى ترى ‌فى‌ الفقر قيمه سلبيه منحطه، كما ترى ‌فى‌ الغنى قيمه ايجابيه رفيعه، مما يجعل الغنى محترما ‌و‌ الفقير محتقرا، ‌و‌ لكنك- ‌يا‌ رب- ‌لا‌ تحتقر خلقك الذين يحتاجون اليك، ‌و‌ كلهم فقير اليك محتاج لكل عطاياك، ‌و‌ قد نهيت عبادك عن انتهار السائل ‌فى‌ قولك: (و اما السائل فلا تنهر) (الضحى: 10) ‌و‌ عن الاذى ‌فى‌ الصدقه بالمن على الفقير الذى يكون محلا للصدقه.. ‌و‌ اردت لعبادك ‌ان‌ يسالوك ‌و‌ يلجاوا اليك ‌فى‌ حوائجهم، ‌و‌ اعلنت لهم انك تحب المنفتحين عليك ‌فى‌ دعواتهم ‌من‌ موقع الفقر ‌و‌ الحاجه اليك، لان ذلك يمثل المظهر الحى لعمق الايمان ‌و‌ ‌سر‌ المحبه لك، مما يجعل اكثرهم دعاء لانه اكثر حاجه، قريبا اليك محبوبا لديك.. ‌يا‌ ‌من‌ ‌لا‌ يحتقر اهل الحاجه اليه.

 ‌يا‌ ‌من‌ ‌لا‌ يخيب الملحين عليه:
 
 ‌و‌ ‌لا‌ يخيب الملحين عليه، لان الالحاح ‌فى‌ طلباتهم يفتح ابواب الدعاء الخاشع المتضرع ‌فى‌ مواقع الاخلاص ‌فى‌ مناجاتهم، مما يجعل للمساله بعدا جديدا ‌فى‌ رحاب القرب ليكون لهم افضل الفرص ‌فى‌ الاستجابه لهم بتحقيق ‌ما‌ يريدون، لان الاخرين يبخلون على السائلين الملحاحين خوفا ‌من‌ نفاد خزائنهم، اما انت- ‌يا‌ رب- فان خزائنك ‌لا‌ تنفد ‌و‌ عطاءك ‌لا‌ ينتهى، فلا يزيدك العطاء الا كرما وجودا.
 
«و ‌يا‌ ‌من‌ ‌لا‌ يجبه بالرد اهل الداله عليه» ‌من‌ هولاء الذين ‌لا‌ يكفون عن الطلب فينبسطون انبساط الواثق بمنزلته ‌من‌ دون خوف ‌و‌ ‌لا‌ وجل، ‌و‌ يتحركون بجراه الشخص الذى يوحى بان له حقا ‌فى‌ الكثير مما يريد، فلا يقنع بالقليل ‌و‌ ‌لا‌ يجمل ‌فى‌ الطلب، تماما كما ‌هو‌ دلال المراه على زوجها ‌فى‌ ‌ما‌ تهجم ‌به‌ ‌من‌ مطالبتها له بما تريد، باسلوب قد يوحى بالجراه التى قد ‌لا‌ تراعى التوازن ‌فى‌ الموقف..
 ‌و‌ هكذا نجد ‌ان‌ الناس يواجهون امثال هولاء الذين يدلون عليهم بما يرونه لانفسهم ‌من‌ موقع لديهم ‌فى‌ ‌ما‌ يطلبونه ‌من‌ امور، بالمنع ‌و‌ الرد ‌و‌ المقابله بالسوء.. بينما نجدك- ‌يا‌ رب- ‌فى‌ مواقع كرمك تفتح لهم ابواب عطائك، ‌و‌ تغفر لهم جراتهم، ‌و‌ تستقبلهم بكل محبه ‌و‌ رحمه.. ‌و‌ قد توحى اليهم- بذلك- انك تشجع على الشعور بان للعباد داله على ربهم ‌فى‌ ‌ما‌ يثقون ‌به‌ ‌من‌ فضله، ‌او‌ ‌فى‌ ‌ما‌ يعتقدونه ‌من‌ محبته لعباده الصالحين المنفتحين على عبادته ‌و‌ المقبلين بالدعاء الخاشع له ‌فى‌ ‌ما‌ يحتاجونه منه، لانه يحب الذين يشعرون بانه- هو- مرجع كل شى ء ‌فى‌ الامور.
«و ‌يا‌ ‌من‌ يجتبى صغير ‌ما‌ يتحف به»، فيختار المقادير الصغيره ‌من‌ الاعمال التى قدمها عباده اليه زلفا ‌و‌ كرامه، ليتقربوا اليه ‌فى‌ ذلك حسب قدرتهم، فيتقبل ذلك منهم، لان المساله- عنده- هى ‌فى‌ المدلول الروحى لما يقدمونه ‌من‌ جهدهم ‌فى‌ تعبيره عن الاخلاص له، ‌لا‌ ‌فى‌ طبيعه المقدار ‌من‌ حيث الكثره ‌و‌ القله، لان العبره ‌فى‌ عباده الله بالنوع ‌لا‌ بالكم.
 ‌و‌ هكذا يتاكد المعنى ‌فى‌ صوره اخرى:
 «و يشكر يسير ‌ما‌ يعمل له»، فانت ‌يا‌ رب تشكر عبادك على اعمالهم الصالحه التى يتقربون بها اليك، فتبادلهم بها شكرا ‌فى‌ المضمون العملى لذلك ‌فى‌ مجازاتهم بجزيل الثواب ‌و‌ جميل الثناء.. ‌و‌ ذلك ‌هو‌ معنى شكرك لهم فيما ‌هو‌ نتيجه الشكر ‌فى‌ مظهر لطفك الالهى بهم، فليست القضيه هى حجم العمل بل ‌هو‌ المبداء ‌فى‌ ‌ما‌ يوحى ‌به‌ ‌من‌ الايمان ‌و‌ الاخلاص، لتشجع عبادك على الامتداد ‌فى‌ طاعتك طلبا لرضاك.
 
«و ‌يا‌ ‌من‌ يشكر على القليل ‌و‌ يجازى بالجليل»، فيعطى الثواب المضاعف الكبير على العمل القليل، تشجيعا لعباده على الاستمرار فيه طلبا للازدياد. ‌و‌ قد جاء عن الغزالى- ‌فى‌ كتاب المقصد الاسنى-: «الشكور ‌هو‌ الذى يجازى بيسير الطاعات كثير الدرجات، ‌و‌ يعطى بالعمل ‌فى‌ ايام معدوده نعما غير محدوده، ‌و‌ ‌من‌ جازى الحسنه باضعافها يقال: انه شكر تلك الحسنه، ‌و‌ ‌من‌ اثنى على المحسن ايضا فيقال ايضا انه شكره ‌و‌ زياداته- تعالى- ‌فى‌ المجازاه غير محصوره ‌و‌ ‌لا‌ محدوده، فان نعيم الجنه ‌لا‌ نفاد له ‌و‌ ‌لا‌ منتهى، ‌و‌ الله تعالى يقول: (كلوا ‌و‌ اشربوا هنئيا بما اسلفتم ‌فى‌ الايام الخاليه) (الحاقه: 24) ‌و‌ ثناوه على عباده بما وفقهم له ‌من‌ العمل الصالح مشهور ‌فى‌ كتابه المجيد ‌و‌ مسطور كقوله تعالى (و الذاكرين الله كثيرا ‌و‌ الذاكرات) (الاحزاب: 35) ‌و‌ كقوله تعالى: (التائبون العابدون) (التوبه: 112) الى آخرها.
 قال بعض اهل العرفان: اياك ‌ان‌ تحقر ‌من‌ الاعمال الصالحه شيئا ابدا صغيرا كان ‌او‌ كبيرا، اذ ‌لا‌ هاجس يهجس لك ‌فى‌ الطاعه الا شكرك الله تعالى عليه، ‌و‌ كفى دليلا على ذلك قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذره خيرا يره) (الزلزله: 7).
«و ‌يا‌ ‌من‌ يدنو الى ‌من‌ دنا منه» فاذا اقترب عبادك ‌من‌ مواقع طاعتك ‌فى‌ ‌خط‌ رضاك فذكروك بعظمتك ‌فى‌ آفاق خلقك، ‌و‌ انقادوا اليك ‌فى‌ اوامرك ‌و‌ نواهيك بالدرجه التى اقتربت فيه افكارهم ‌من‌ اجواء معرفتك، ‌و‌ اعمالهم ‌من‌ ساحات عفوك.. فانك تقترب منهم برحمتك ‌و‌ رضوانك ‌فى‌ ‌ما‌ تسبغه عليهم ‌من‌ نعمك، ‌و‌ تبسطه عليهم ‌من‌ كرمك.. ‌و‌ بهذا يكون القرب منك لعبادك قربا معنويا بالفضل، ‌و‌ القرب ‌من‌ العباد اليك قربا بالطاعه.
 
«و ‌يا‌ ‌من‌ يدعو الى نفسه ‌من‌ ادبر عنه»، فانت ‌لا‌ تترك عبادك الغافلين ‌فى‌ غفلتهم، ‌و‌ ‌لا‌ تهمل المعرضين عنك ‌و‌ المدبرين عن ندائك، بل تدعوهم الى العوده اليك، ‌و‌ الاقبال على طاعتك، ‌و‌ التوبه عن معصيتك، ‌و‌ ترغبهم بعفوك ‌و‌ مغفرتك، ‌و‌ بمواقع النعيم ‌فى‌ جنتك، لانك تريد لهم ‌ان‌ ياخذوا باسباب النجاه ‌فى‌ ‌ما‌ ياخذون ‌به‌ ‌من‌ اسباب الانابه اليك ‌و‌ الرغبه ‌فى‌ ‌ما‌ عندك، فلا تتركهم لحبائل الشيطان الذى يضلهم عن عبادتك ‌و‌ يدفعهم الى الاعراض عنك، ‌لا‌ لحاجه بك اليهم، فانت الغنى عن وجودهم، فكيف تكون محتاجا لعبادتهم، ‌و‌ لكن لرحمه بهم ‌فى‌ ‌ما‌ ترحم ‌به‌ عبادك ‌من‌ الانفتاح على خير الدنيا ‌و‌ الاخره ‌من‌ خلال اعمال الخير المرتبطه برضاك.
 
«و ‌يا‌ ‌من‌ ‌لا‌ يغير النعمه» عقابا على ‌ما‌ يقوم ‌به‌ عبادك ‌من‌ المعاصى، ‌ما‌ دامت افكارهم منفتحه عليك، ‌و‌ قلوبهم نابضه بالايمان بك، لان المعصيه ‌لا‌ تكون حاله ‌فى‌ عمق الذات، بل تكون شيئا طارئا ‌فى‌ نزوات الجسد ‌و‌ انحرافات الواقع، ‌و‌ بذلك تبقى النعمه ‌فى‌ امتدادها ‌فى‌ حياتهم اشاره دائمه الى انك ‌يا‌ رب الرحيم الذى ‌لا‌ يواخذ عباده باعمالهم السيئه بازاله مواقع النعم عندهم، ‌و‌ لكنه يغيرها عندما يختارون ذلك بتغيير افكارهم ‌و‌ مشاعرهم ‌فى‌ الانحراف كليا عن الخط المستقيم ‌فى‌ الايمان ‌و‌ ‌فى‌ الاخلاص ‌و‌ ‌فى‌ الاجواء المنفتحه على الخير، باستبدالها بالاجواء المنفتحه على الشر، فيكونون ‌هم‌ السبب ‌فى‌ ذلك بسوء اختيارهم، لان المساله حينئذ تتصل بطبيعه السنه الالهيه الكونيه ‌فى‌ ارتباط المسببات باسبابها، ‌و‌ هذا ‌هو‌ قولك ‌فى‌ كتابك العزيز ‌فى‌ سوره الرعد: (ان الله ‌لا‌ يغير ‌ما‌ بقوم حتى يغيروا ‌ما‌ بانفسهم) (الرعد: 11) ‌و‌ قولك- سبحانك- ‌فى‌ سوره الانفال: (بان الله لم ‌يك‌ مغيرا نعمه انعمها على قوم حتى يغيروا ‌ما‌ بانفسهم) (الانفال: 53).
 فانهما توحيان بان التغيير الالهى ‌فى‌ النتائج ‌فى‌ اقبال النعم ‌و‌ ادبارها ناشى ء ‌من‌ التغيير الانسانى ‌فى‌ المقدمات التى ترتبط بها الامور ‌فى‌ تقدير الله للنظام الكونى ‌و‌ علاقه الانسان به، ‌و‌ ليس مجرد حاله انتقام الهى فيما هى الصفه الذاتيه ‌من‌ الانتقام ‌من‌ عباده العاصين، فان رحمته تسبق غضبه.
 «و ‌لا‌ يبادر بالنقمه» بل يمهل عباده ‌و‌ يتركهم مده ‌من‌ الزمن، ‌و‌ يملى لهم ليفسح لهم المجال بالعوده اليه ‌و‌ بالتوبه عن المعاصى.. ‌و‌ ربما يوخرهم الى الاخره فلا ينتقم منهم ‌فى‌ الدنيا على اساس محاربتهم له ‌و‌ تمردهم عليه، لانه يريد لهم ‌ان‌ ياخذوا باسباب رحمته، فاذا استمروا ‌فى‌ العناد، لم يبق لديهم فرصه للتراجع بعد ‌ما‌ استنفدوا كل ‌ما‌ جعله الله لهم ‌من‌ الفرص المتاحه لهم حيث ياخذهم الله اخذ عزيز مقتدر.
«و ‌يا‌ ‌من‌ يثمر الحسنه حتى ينميها، ‌و‌ يتجاوز عن السيئه حتى يعفيها».. ‌و‌ ذلك ‌من‌ خلال كرمك المنطلق ‌من‌ آفاق رحمتك، فانك تضاعف الحسنه، فتوحى الى عبادك بذلك ‌فى‌ قولك: (من جاء بالحسنه فله عشره امثالها) (الانعام: 160).. ‌و‌ ‌فى‌ قولك: (من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له اضعافا كثيره) (البقره: 245) ‌و‌ ‌فى‌ قولك: (مثل الذين ينفقون اموالهم ‌فى‌ سبيل الله كمثل حبه انبتت سبع سنابل ‌فى‌ كل سنبله مائه حبه ‌و‌ الله يضاعف لمن يشاء) (البقره: 261)، ‌و‌ ‌فى‌ الحديث: «ان الصدقه «تقع ‌فى‌ يد الرحمن» ‌و‌ ‌ان‌ الله يربيها لصاحبها كما يربى احدكم فلوه ‌او‌ فصيله».
 ‌و‌ هكذا تنمو الحسنه بتنميتك لها ‌فى‌ ساحات رحمتك ‌و‌ كرمك، اما السيئه فانك تتجاوزها فتغفرها باراده العفو عندك، ‌و‌ باراده التوبه لدينا، حتى ‌لا‌ يبقى منها اثر ‌فى‌ ‌ما‌ تتركه السيئات ‌من‌ آثار سلبيه على قضيه المصير ‌فى‌ الدنيا ‌و‌ الاخره، لانك الرب الكريم الذى ‌لا‌ يتعاظمه غفران الذنب العظيم.
اللهم انت الكريم الذى ‌لا‌ حدود لكرمه:
 
 انا هنا- ‌يا‌ رب- ‌فى‌ الطريق اليك، ‌و‌ احلامى كلها بين يديك تتنوع ‌فى‌ حاجاتها ‌و‌ طلباتها ‌و‌ تتوسل اليك بكل وسائلها ‌و‌ اساليبها، لتبلغ ساحه كرمك ‌و‌ لتصل الى غاياتها ‌من‌ خلال ذلك عندما تبلغ نهايات مداه.. ‌و‌ لكنى وجدتها ترجع ‌من‌ عندك ‌فى‌ منتصف الطريق لتعود الى ذاتها حامله كل الخير الذى تتطلبه، فقد التقت بك ‌فى‌ الطريق، ‌و‌ رات ‌فى‌ كرمك كل اشواقها ‌و‌ تطلعاتها، لانك ‌لا‌ تريد لعبادك السائرين اليك ‌ان‌ يعيشوا الجهد الكبير ‌فى‌ رحلتهم الالهيه، لانهم ‌لا‌ يستطيعون بلوغ النهايات الاخيره لكرمك لانه ‌لا‌ نهايه له، ‌و‌ هكذا انصرفت الامال عن اكمال الرحله دون ‌ان‌ تبلغ مدى كرمك، لكنها التقت بما تريد منه، ‌و‌ امتلات بفيض جودك كل الاوعيه التى قدمتها الطلبات، فلم تبق هناك حاجه لمحتاج ‌و‌ ‌لا‌ زياده لمستزيد.
 
 اللهم انت العلى الاسمى فوق كل عال:
 
 ‌و‌ تحدثنا عنك- ‌يا‌ رب- لنبلغ مدى عظمتك ‌فى‌ كل ‌ما‌ نملكه ‌فى‌ قواميس اللغات ‌من‌ الصفات العظيمه التى تعبر عن كل وعى الانسان لمواقع العظمه ‌و‌ آفاق السمو، مما يستخدمه ‌فى‌ التعبير عن شعوره امام عظمه العظماء، ‌و‌ تحركت الصفات اليك ‌فى‌ ‌خط‌ المعرفه، فلم تلبث ‌ان‌ اهتزت اهتزاز الحيره عندما حدقت ‌فى‌ عليائك، فلم تجد الا بعض ملامح صفاتك ‌فى‌ بعض مواقع خلقك.. اما انت ‌فى‌ عظمتك فيما هى العظمه الحقيقيه ‌فى‌ المدى الرحب الذى ‌لا‌ يقف عند حد، اما ‌سر‌ عظمتك ‌فى‌ العمق العميق للاسرار الخفيه التى ‌لا‌ تبلغها العقول.. فكيف تستطيع الصفات المحدوده ‌ان‌ تحدد معناك، ‌و‌ ‌لا‌ حدود لاى معنى ‌من‌ معانيك اوايه صفه ‌من‌ صفاتك.. لذلك كان الاهتزاز يضرب الصفات التى نملكها ‌فى‌ كلماتنا بالعمق، فتتفسخ ‌و‌ تتضاءل ‌و‌ تكاد تذوب خجلا ‌و‌ حيره ‌من‌ مواقع العظمه ‌فى‌ سمو الالوهيه المطلقه، «فلك العلو الاعلى فوق كل عال»، لان لكل عال حدوده التى يقف عندها علوه ‌فى‌ ‌ما‌ يمكن ‌ان‌ يبلغه ‌من‌ ذلك، ‌و‌ لكنك- ‌يا‌ رب- الاعلى فوق كل عال فلا يبلغ احد درجه علوك ‌و‌ ‌لا‌ معناه.
 «و الجلال الامجد فوق كل جلال»، لان جلالك يستوعب ‌فى‌ مضمونه كل معانى الجلال مما ‌لا‌ يمكن ‌ان‌ يبلغه احد ‌من‌ مخلوقاتك ‌او‌ يفهم سره، ‌و‌ كيف يفهم المخلوق موقع العظمه ‌فى‌ قدر خالقه، مما ‌لا‌ يمكن ‌ان‌ تقف عنده الحدود ‌او‌ تبلغ مستواه العقول التى ‌لا‌ نملك ايه وسيله ‌من‌ وسائل المعرفه لديها للوصول الى ذلك.
و اذا نظرنا الى الذين يوصفون ‌من‌ خلقك بالجلال، فسنجد ‌ان‌ «كل جليل عندك صغير»، لانه مخلوق لك ‌فى‌ وجوده، محتاج اليك ‌فى‌ ذاته، فكيف ياخذ حجمه الكبير ‌فى‌ القيمه بين يديك.. ‌و‌ اذا نظرنا الى الاشراف الذين يتميزون بصفه الشرف ‌فى‌ المعانى التى توهلهم للاحترام ‌و‌ العظمه ‌فى‌ ‌ما‌ يتصفون ‌به‌ ‌من‌ صفات جليله امام الناس الاخرين، فسنلا حظ، عندما نتطلع اليك ‌فى‌ الشرف المطلق ‌فى‌ كل معانى العظمه ‌و‌ السمو الالهى حيث نراك ‌و‌ انت تملك الكون كله ‌و‌ الامر كله ‌من‌ موقع انك خلقت الوجود كله، ‌و‌ نتطلع- بعد ذلك- الى كل هولاء المخلوقين الذين قد ترتفع درجاتهم عن الارض ‌فى‌ دائره موازينهم البشريه ‌فى‌ ‌ما‌ يملكونه ‌من‌ قيم السمو البشرى، حيث نجدهم ‌لا‌ يملكون شيئا حتى ‌فى‌ ‌ما‌ يملكونه ‌من‌ صفات ‌و‌ اوضاع، لانه ‌فى‌ عمقه ‌و‌ طبيعته هبه منك، خلقته بارادتك، ‌و‌ انت القادر على ازالته بقوتك.. ‌و‌ ‌فى‌ اجواء هذه المقارنه سنلا حظ ‌ان‌ «كل شريف ‌فى‌ جنب شرفك حقير»، لانه ‌لا‌ يساوى شيئا ‌فى‌ حساب الشرف امامك، بل قد يكون كل شرفه انه عبد لك ‌فى‌ كل مواقع الاخلاص الذى ينطلق العبد ‌به‌ امام مولاه.
 ‌و‌ هكذا تتوازن النظره عندنا عندما نقف ‌فى‌ ساحه المقارنه بين الخالق ‌و‌ المخلوق، فلا ننظر الى المخلوق بايه نظره تاليهيه ‌فى‌ ‌ما‌ قد تتمثل ‌به‌ مظاهر قوتهم ‌و‌ عظمتهم بالمستوى الذى نغفل فيه عن الطبيعه الانسانيه الخاضعه للحاجه المطلقه للخالق، بحيث نجد ‌فى‌ ملامح عظمتهم ‌و‌ عناصر قوتهم، ملامح عظمه الله ‌و‌ قوته الذى صنع ذلك كله، مما يوحى الينا بانهم ‌لا‌ يعيشون ‌اى‌ استقلال ذاتى ‌فى‌ كل وجودهم، ‌و‌ ‌لا‌ يملكون ‌لا‌ نفسهم ضرا ‌و‌ ‌لا‌ نفعا الا بالله، فكيف يكونون ‌فى‌ مستوى الاله.
 
 خاب الوافدون على غيرك:
 
 ‌يا‌ رب، انى اتطلع لنفسى ‌و‌ للناس ‌من‌ حولى ‌فى‌ الحالات التى قد نعيش فيها الحاجه الى بعض الامور ‌فى‌ ‌ما‌ يتصل بحياتنا ‌فى‌ كل حاجاتها الماديه ‌و‌ المعنويه، فيدعونا ذلك الى الوفود على غيرك ممن يملكون المال ‌و‌ الجاه ‌و‌ السلطه، ‌و‌ قد نتعرض لبعض خلقك ‌فى‌ ذلك للحصول على معروفه فنلم ‌به‌ المام الذليل الفقير بالعزيز الغنى، لنحصل على موقع ‌فى‌ نفسه ‌او‌ على شى ء ‌من‌ غناه، ‌و‌ قد نتطلب الفضل فسعى للحصول ‌فى‌ الافاق، كما يتطلب الناس الكلاء ‌و‌ العشب ‌فى‌ الارض الواسعه التى تغطيها خضره الربيع.. ‌و‌ هكذا نجد انفسنا مشدودين الى الناس ‌من‌ حولنا ‌فى‌ ‌ما‌ نحتاجه ‌من‌ امورنا كلها.. ‌و‌ لكنى التفت الى حقيقه الوجود عندما اتطلع اليك، ‌فى‌ ‌ما‌ تفيض ‌به‌ على عبادك ‌من‌ نعمك.. فارى انك وحدك الذى فتح بابه للراغبين ‌فى‌ عطائه ‌من‌ دون استثناء، ‌و‌ انك وحدك الذى يبيح كرمه للسائلين ‌من‌ دون تعقيد، ‌و‌ انك وحدك الذى ترعى المستغيثين بك لتكون اغاثتك لهم قريبه منهم ‌و‌ ‌من‌ كل مواقع الالم الذى يصرخ ‌فى‌ كياناتهم، ‌من‌ دون تاخير، فلا يخيب امل آمل منك مهما كانت آماله كبيره، ‌و‌ ‌لا‌ يياس المتعرضون ‌من‌ عطائك مهما كانت مطالبهم جليله، ‌و‌ ‌لا‌ يشقى المستغفرون بنقمتك التى يستحقونها بذنوبهم مهما كانت ذنوبهم خطيره، لانك تتلقى خلقك المنفتحين عليك بعطاء الرزق كله ‌و‌ المغفره كلها..
 اما الوافدون على غيرك فلم يظفروا بما طلبوا، فعادوا يجرون اذيال الخيبه، لانهم اذا حصلوا على بعض ‌ما‌ يطلبون فانهم لم يحصلوا على البعض الاخر، ‌و‌ اما المتعرضون لعبادك ‌فى‌ ‌ما‌ يقدمونه ‌من‌ حاجات ‌و‌ ‌فى‌ ‌ما‌ يتطلعون اليه ‌من‌ عطاء، فقد خسروا ‌فى‌ مساعيهم وجهودهم التى بذلوها ‌فى‌ هذا السبيل، فلم يحصلوا منها على شى ء.. ‌و‌ اما الملمون باصحاب الجاه ‌و‌ الثروه ‌من‌ خلقك، فقد ضاعوا امام الوعود الكاذبه ‌و‌ الاحلام الخادعه...و اما المنتجعون لفضل الاخرين ‌فى‌ ‌ما‌ يتطلبونه ‌من‌ عشب الرزق ‌و‌ كلاء الجاه، فقد عاشوا الجدب ‌فى‌ كل ساحاتهم، فلم يجدوا فيها ‌اى‌ شى ء يوحى بخضره الامل الكبير..
و هكذا ابتعد كل هولاء عن حاجاتهم ‌فى‌ ‌ما‌ يريدونه ‌و‌ يتطلبونه، لان الذين قصدوهم ‌لا‌ يملكون الغنى الذاتى ‌فى‌ اوضاعهم الماديه ‌و‌ المعنويه، ‌و‌ ‌لا‌ يعيشون الانفتاح الروحى بالعطاء ‌فى‌ حاجات الناس ‌من‌ حولهم، فقد يتحركون ‌فى‌ ذلك كله على اساس العقيده الذاتيه، ‌او‌ العقليه الضيقه، ‌او‌ الخوف ‌من‌ نفاد ‌ما‌ عندهم ‌من‌ مال، ‌او‌ ضعف ‌ما‌ عندهم ‌من‌ جاه، ‌او‌ نحو ذلك، مما يجعلهم بعيدين عن آمال الناس الذين يفدون عليهم ‌و‌ يتعرضون لمعروفهم ‌و‌ يلمون بهم ‌و‌ ينتجعون فضلهم..
 فاذا كانت المساله بهذا القدر الكبير ‌من‌ الوضوح فيما هى التجربه ‌و‌ فيما هى المعرفه، فكيف ابقى بعيدا عنك، ‌و‌ انت القريب الى كل خلقك ‌فى‌ كل وجودهم ‌و‌ حاجاتهم، ‌و‌ كيف اكون قريبا ‌من‌ خلقك المحتاجين اليك، ‌و‌ ‌هم‌ البعيدون عن كل قوه ‌فى‌ ‌اى‌ جانب ‌من‌ جوانب الحياه الا ‌ما‌ تمنحهم ‌من‌ ذلك ‌من‌ عطائك، فلماذا الجاء اليهم ‌و‌ ‌لا‌ الجاء اليك.
 
عادتك الاحسان الى المسيئين:
 
 كلما تصورتك- ‌يا‌ رب- ‌فى‌ آفاق عظمتك التى ‌لا‌ تحد، ‌و‌ ‌فى‌ رحاب رحمتك التى ‌لا‌ ينتهى مداها، ‌و‌ ‌فى‌ مواقع لطفك ‌فى‌ امتداد كرمك الذى ‌لا‌ يضيق عن كل شى ء ‌و‌ عن كل احد، كلما تصورتك ‌فى‌ ذلك كله ‌فى‌ ‌ما‌ يتصوره عقلى مما يمكن ‌ان‌ يبلغه ‌فى‌ ادراكه، تصورت الحياه بين يديك ‌فى‌ ارحب آفاقها، ‌و‌ ‌فى‌ اوسع مجالاتها، ‌و‌ ‌فى‌ اصفى مشاعرها، فاحس بالامن ‌من‌ كل مواقع الخوف، ‌و‌ بالطمانينه ‌فى‌ كل مواطن الحيره، ‌و‌ بالثبات ‌فى‌ كل مجالات الاهتزاز.
 ‌و‌ اذا التقيت بالمعاصى ‌فى‌ حياتى العابثه اللاهيه بفعل وساوس الشيطان ‌و‌ احابيله، ‌و‌ خيل الى بانى ساعيش الحرمان ‌من‌ فضلك ‌و‌ عطفك ‌من‌ خلال استحقاقى للطرد ‌من‌ رحمتك، فانى اتصور الحقيقه الالهيه ‌فى‌ طريقتك ‌فى‌ حكمتك ‌فى‌ رعايه خلقك، فاهفو اليك ‌من‌ جديد ‌و‌ احس بالطمانينه ‌فى‌ عمق روحى الباحثه ابدا عن كل خير لديك.
 انك- ‌يا‌ الهى- ‌لا‌ تعامل العصاه المتمردين على اوامرك ‌و‌ نواهيك باسلوب ‌رد‌ الفعل الانتقامى بحرمانهم ‌من‌ رزقك عند قيامهم بمعصيتك، بل يبقى رزقك ‌و‌ افرا مبسوطا عليهم، تماما كما لو كانوا بعيدين عن ‌خط‌ العصيان، لان عطاءك ‌لا‌ ينطلق ‌من‌ نقطه التعويض لما يقومون ‌به‌ ‌من‌ اعمال الطاعه، حتى اذا استبدلوها باعمال المعصيه فقدوا استحقاق العوض، ‌و‌ لكنه ينطلق ‌من‌ ‌سر‌ الكرم ‌فى‌ صفاتك الالهيه، فيشمل ‌من‌ يستحقه، ‌و‌ ‌من‌ ‌لا‌ يستحقه لانك اهل الكرم ‌فى‌ مواقعه ‌فى‌ الحياه.
 انك ‌لا‌ تستعجل العقاب لمن عاداك:
 
 ‌و‌ انت- ‌يا‌ رب- ‌لا‌ تستعجل العقاب لمن عاداك ‌و‌ ناواك ‌و‌ تمرد عليك، بل تمنحه ‌من‌ حلمك الذى يتسع لهم حتى يصل الى ‌حد‌ العفو ‌و‌ المغفره، لانك ‌لا‌ تنفعل- كما ينفعل عبادك- امام مظاهر التمرد عليك ‌فى‌ مخالفه اوامرك ‌و‌ نواهيك، ‌و‌ ‌لا‌ يحملك ذلك على المسارعه ‌فى‌ الانتقام ‌فى‌ حالات الغضب، لان المساله هى ‌ان‌ حركه هولاء ‌فى‌ واقع المناواه ‌لا‌ يسى ء الى الله ‌فى‌ ذاته، فهو اجل ‌و‌ ارفع ‌من‌ ‌ان‌ تسى ء اليه المعصيه فتنقص ‌من‌ قدره، ‌و‌ لكنها تسى ء الى الاشخاص انفسهم ‌فى‌ ‌ما‌ يفقدونه ‌من‌ مصالح الطاعه ‌او‌ يقعون فيه ‌من‌ مفاسد المعصيه، مما يعود ضرره عليهم، ‌و‌ بذلك كان الحلم عنهم، لونا ‌من‌ الاشفاق عليهم ‌فى‌ ‌ما‌ يسيئون ‌به‌ الى اوضاعهم الخاصه ‌و‌ العامه ‌فى‌ الحياه، بالاضافه الى معنى كرم الله ‌فى‌ معنى حلمه، ‌و‌ علوه عن ‌ان‌ يواجه عباده بطريقه ‌رد‌ الفعل الذاتى على اعمالهم، ‌و‌ ليس هذا الاحسان ‌فى‌ بسط الرزق للعصاه ‌و‌ ‌فى‌ الحلم عن المناوئين حاله طارئه قد تحدث على سبيل المفاجاه ‌فى‌ بعض الاحوال، ‌و‌ لكنها- ‌يا‌ رب- نهج مستمر ‌فى‌ تعاملك مع عبادك، فتلك هى عادتك، كما ‌ان‌ الابقاء على هولاء المعتدين على مقامك، يمثل سنه قائمه دائمه ‌فى‌ طريقتك ‌فى‌ مواجهه اوضاعهم المنحرفه، انطلاقا ‌من‌ حكمتك ‌فى‌ تنظيم الواقع الانسانى على الاساس الثابت القوى الذى يحقق لهم الصلاح ‌فى‌ دينهم ‌و‌ دنياهم.
 ‌و‌ لكنهم لم يفهموا ذلك ‌فى‌ اسرار الحكمه، بل فهموه ‌فى‌ اجواء غفلتهم الساذجه، فاعتبروه لونا ‌من‌ الوان الامتيازات التى يمنحها الله لهم لشطارتهم ‌و‌ مواقعهم الاستكباريه الاجتماعيه، فاغتروا باناه الله، ‌اى‌ التريث ‌فى‌ معاجلتهم، ‌و‌ كفوا عن التراجع عن ‌خط‌ الانحراف، ‌و‌ صدهم امهاله لهم ‌فى‌ الامتداد بالحياه باعمالهم السيئه، عن الاقلاع عن المعاصى التى يمارسونها.. ‌و‌ لو فكروا تفكيرا دقيقا ‌فى‌ حقائق القوه الالهيه ‌و‌ السنه الربانيه ‌فى‌ ‌خط‌ الحكمه، لعرفوا انك- ‌يا‌ رب- تانيت بهم فلم تعاجلهم بالعقوبه لتترك لهم الفرصه للتفكير المتوازن، ليشعروا- ‌من‌ خلاله- بالخطاء الكبير الذى وقعوا فيه ‌و‌ المشكله الصعبه المعقده التى يتخطبون فيها، ليدفعهم ذلك الى ‌ان‌ يفيئوا الى امرك ‌فى‌ ‌خط‌ تراجعى عماهم فيه، ‌و‌ ليعودوا الى الخط المستقيم، ‌و‌ انك امهلتهم ‌و‌ اعطيتهم هذه المده الطويله لانك تريد لهم الخير ‌فى‌ القرار الجديد ‌فى‌ التوبه الخالصه، ‌و‌ انت تعلم، انه ‌لا‌ موجب للعجله ‌فى‌ العقوبه، لان الذى يعجل ‌هو‌ الذى يخاف الفوت، ‌او‌ الذى يخشى ‌من‌ المتمردين على ملكه الذى قد يهتز امام استمرارهم ‌فى‌ التمرد، ‌و‌ لكنك- ‌يا‌ رب- على ثقه خالده بدوام ملكك الذى يرتكز على قوتك التى ‌لا‌ ‌حد‌ لها ‌و‌ عزتك التى ‌لا‌ ينتقص احد منها مهما كانت قوته ‌و‌ عظمته.. ‌و‌ بذلك كانت سنتك ‌ان‌ تترك لعبادك الفرصه الطويله لمواجهه التجربه ‌و‌ تجديدها، لينطلقوا ‌فى‌ تجربه النجاح عند الوقوع ‌فى‌ قبضه التجربه الفاشله، ‌و‌ ليتحركوا ‌فى‌ ‌خط‌ الاستقامه ليستقيموا عليه عند وقوعهم ‌فى‌ قبضه الانحراف، لانك تريد للانسان الذى يطلب السير ‌فى‌ دروب السعاده ‌ان‌ يستنفد كل التجارب التى تقوده اليها، فلا يسقط ‌و‌ يتجمد امام تجربه الشقاء التى قد تتكرر منه ‌فى‌ حالات طارئه لينتهى امره عندها، بل يتابع الطريق ‌فى‌ فرصه جديده يتجاوز فيها الحالات الطارئه الى مواقع جديده تفتح له ابواب السعاده على مصراعيها، ليدخلها ‌من‌ خلال ايمانه ‌و‌ حركته ليبلغ نهاياتها ‌فى‌ افضل وجه.
انما تانيت ليفيئوا الى امرك:
 
 كما تريد للانسان الذى اختار الشقاء ‌فى‌ دروب المعصيه، ‌و‌ استسلم لاوضاع الانحراف ‌و‌ الضلال، ‌ان‌ تمنحه الفرصه للتفكير المتوازن المستقيم ‌من‌ خلال مهله هنا ‌و‌ صدمه هناك، ليعيد النظر ‌فى‌ كل قناعاته، ‌و‌ ليفتح الابواب على الافاق الرحبه ‌فى‌ آفاقك الله.. ليتراجع عن ‌خط‌ الشقاوه ‌و‌ يبداء السير ‌فى‌ ‌خط‌ السعاده.. فلا تجمد له الموقع، بل تجرب له اكثر ‌من‌ موقع للخير ‌و‌ للحق ‌و‌ للهدايه.. حتى اذا امتد بعد ذلك ‌فى‌ غيه ‌و‌ طغيانه ‌و‌ تمرده، اسلمته لمصيره دون ‌ان‌ تتدخل- بطريقه غير عاديه- ‌فى‌ اللطف ‌به‌ ‌و‌ هدايته الى درب السعاده، لانه اختار الشقاء لنفسه فرفض كل ‌ما‌ قدمته له ‌من‌ ذلك كله.
 ‌و‌ هذا ‌ما‌ نستوحيه ‌من‌ ‌ان‌ الله يختم لمن كان ‌من‌ اهل السعاده بها، ‌و‌ يخذل ‌من‌ كان ‌من‌ اهل الشقاوه لها.. فليس المقصود بها ‌ان‌ يخلق الانسان سعيدا على اساس العناصر الذاتيه للسعاده ‌فى‌ شخصيته، ‌و‌ ليس المقصود بها ‌ان‌ يخلق الانسان شقيا على اساس العناصر الذاتيه للشقاوه ‌فى‌ ذاته، لان ذلك يعنى ‌ان‌ الامهال ‌و‌ الاناه ‌و‌ امثال ذلك ‌لا‌ يقدم ‌و‌ ‌لا‌ يوخر شيئا ‌فى‌ الموضوع، لان العناصر الذاتيه ‌لا‌ ‌بد‌ ‌ان‌ تفرض نفسها على الانسان حتى لو اراد الانطلاق بعيدا عن مسارها الطبيعى، لان الذاتيات ‌لا‌ تتخلف عن نتائجها، بل المراد- ‌و‌ الله العالم- ‌ان‌ ‌من‌ كان ‌من‌ اهل السعاده ‌او‌ الشقاوه ‌فى‌ حركه الواقع الموضوعى للانسان ‌فى‌ اختياره لفكره ‌و‌ تحريكه لارادته ‌و‌ تخطيطه لمسيرته ‌و‌ انفتاحه على الجانب الخير ‌او‌ الشرير ‌فى‌ الحياه، فان الله يمنحه الفرصه للتراجع عن ‌خط‌ الانحراف اذا اراد السعاده، ‌و‌ الانفتاح على ‌خط‌ الاستقامه اذا اراد الشقاوه.
 ‌و‌ على ضوء هذا المفهوم يمكن تفسير الاحاديث الوارده ‌فى‌ مساله السعاده ‌و‌ الشقاوه، كما جاء ‌فى‌ الكافى بسند صحيح عن ابى عبدالله جعفر الصادق (ع) قال: «ان الله خلق السعاده ‌و‌ الشقاوه قبل ‌ان‌ يخلق خلقه فمن خلقه الله سعيدا لم يبغضه ابدا ‌و‌ ‌ان‌ عمل شرا ابغض عمله ‌و‌ لم يبغضه، ‌و‌ ‌ان‌ كان شقيا لم يحبه ابدا ‌و‌ ‌ان‌ عمل صالحا احب عمله ‌و‌ ابغضه لما يصير اليه، فاذا احب الله شيئا لم يبغضه ابدا ‌و‌ اذا ابغض شيئا لم يحبه ابدا».
 فان خلق السعاده ‌و‌ الشقاوه قبل خلق الانسان ‌لا‌ معنى له الا ‌من‌ خلال علم الله بالاشياء ‌و‌ تقديره لها، لانهما ‌لا‌ يقومان بطبيعتهما ‌فى‌ الوجود، بل ‌لا‌ ‌بد‌ ‌من‌ قيامهما بالانسان الحى المنفتح على حياته ‌فى‌ الخط الذى يختاره لنفسه ‌من‌ الخير ‌و‌ الشر، فلا تنفصل المساله عن الاختيار ‌فى‌ الجانب الفكرى ‌و‌ العملى لما يلتزمه ‌فى‌ فكره ‌و‌ عمله ليكون الطابع العام لحياته ‌فى‌ ‌خط‌ سيره الطبيعى، بحيث لو حدث الخير ‌من‌ الشرير لكان حاله طارئه منفصله عن الخط العام، ‌و‌ لو حدث الشر ‌من‌ الخير لكان حاله طارئه ‌لا‌ عمق لها ‌فى‌ الذات.. ‌و‌ هذا ‌هو‌ الظاهر ‌من‌ محبه الله للشخص ‌او‌ بغضه له على اساس التزامه بخط السعاده ‌و‌ الشقاوه، بحيث يكون ‌هو‌ الامتداد العام لحياته ‌او‌ محبته لعمل الخير ‌من‌ الشرير ‌او‌ بغضه لعمل الشر ‌من‌ الخير ‌من‌ دون ‌ان‌ يوثر ذلك ‌فى‌ تقويم الذات المنفتحه على الخير ‌او‌ الشر، لان المساله هى مساله الطابع العام للشخص ‌من‌ حيث التزاماته الاساسيه التى تخضع لها كل مفردات حياته، فذلك ‌هو‌ الذى يجعله موضعا لمحبه الله اذا اختار ‌خط‌ السعاده ‌او‌ موضعا لبغضه اذا اختار ‌خط‌ الشقاوه، ‌و‌ هذا ‌هو‌ الذى يودى الى اهماله للشقى ‌و‌ تركه لنفسه ‌فى‌ سوء اختياره، مما يودى الى معنى خذلانه لها ‌من‌ خلال التعامل السلبى معه، فان الله اذا رفع رعايته عن عبده، استسلم العبد لشيطانه، ‌و‌ عاش ‌فى‌ قبضه هواه..
 اما السعيد، فانه يمنحه لطفه ‌و‌ محبته ‌و‌ رعايته تشجيعا له على حسن اختياره، بحيث يودى ذلك الى تقويه العنصر النفسى للسعاده ليختم له بها ‌فى‌ نهايه امره ‌فى‌ الحياه، ‌و‌ لعل هذا ‌هو‌ المراد بقول الامام الصادق (ع) ‌فى‌ ‌ما‌ رواه الكافى بسنده عنه قال: «يسلك بالسعيد ‌فى‌ طريق الاشقياء حتى يقول الناس ‌ما‌ اشبهه بهم بل ‌هو‌ منهم، ثم تتداركه السعاده ‌و‌ قد يسلك بالشقى طريق السعداء حتى يقول الناس ‌ما‌ اشبهه بهم بل ‌هو‌ منهم، ثم يتداركه الشقاء، ‌ان‌ ‌من‌ كتبه الله سعيدا ‌و‌ ‌ان‌ لم يبق ‌فى‌ الدنيا الا فواق ناقه ختم له بالسعاده».
كلهم صائرون الى حكمك:
 
 هولاء- ‌يا‌ رب- الذين يتمردون عليك، ‌و‌ يمتدون- ‌فى‌ طغيانهم- ‌فى‌ المده الطويله التى تمنحها لهم ‌فى‌ ‌ما‌ تمنحه لهم ‌من‌ امتداد العمر، هل يملكون الامتناع عن المصير اليك، ‌و‌ الخضوع لامرك ‌و‌ الاستسلام لحكمك..
 ‌لا‌ ‌بد‌ للحياه ‌من‌ نهايه، مهما امتدت، لينطلق الجميع اليك ‌فى‌ موقف الحساب، ‌و‌ ليصيروا الى حكمك، ‌فى‌ ‌ما‌ يواجهون ‌من‌ الحكم العدل الذى تخضع له اعمالهم ‌و‌ اقوالهم، ‌و‌ ليوولوا الى امرك ‌فى‌ كل امورهم.
 لم يهن على طول مدتهم سلطانك:
 
 ‌و‌ لن يستطيع هولاء مهما بلغت قوتهم ‌ان‌ يضعفوا سلطانك ‌فى‌ خلقك بما يقومون ‌به‌ ‌من‌ اوضاع التمرد ‌و‌ اعمال الطغيان ‌فى‌ ‌خط‌ المعصيه، لانهم ‌لا‌ يملكون شيئا ‌من‌ القوه التى توثر سلبا على ‌اى‌ شى ء ‌من‌ سيطرتك على الوجود كله، ‌و‌ تبقى حجتك عليهم ‌فى‌ الانتقام منهم قائمه ‌فى‌ قوتها التنفيذيه، ‌و‌ ‌فى‌ طبيعتها الذاتيه، لان ترك معاجلتهم لم ينطلق ‌من‌ ارتياب ‌فى‌ ‌ما‌ يستحقونه ‌من‌ العقوبه، ‌او‌ ‌من‌ ضعف ‌فى‌ القدره، ‌من‌ خلال ‌ما‌ قد يفهمه البعض ‌من‌ امهالهم ‌فى‌ المده الطويله، ‌فى‌ ‌ما‌ يمهل ‌به‌ الحاكمون المذنبين ليستجمعوا الوثائق التى تعوزهم، ‌او‌ ليستجمعوا القوه التى تنقصهم، فان الامهال كان منطلقا ‌من‌ افساح المجال لهم ‌فى‌ التراجع بالتوبه، ‌و‌ تصحيح العمل ‌و‌ الانفتاح على افق جديد ‌من‌ حركه الاستقامه ‌فى‌ الفكر ‌و‌ ‌فى‌ الطاعه، كما انه ‌لا‌ يضعف الموقف ‌فى‌ قوته، لان المذنبين ‌لا‌ يملكون الهرب ‌من‌ العقاب، ‌و‌ لذا ‌لا‌ داعى للعجله فانما يعجل ‌من‌ يخاف الفوت..
حجتك قائمه، ‌و‌ سلطانك ثابت:
 
 ‌و‌ هكذا يقف العباد ‌فى‌ دنياهم ‌و‌ آخرتهم خاضعين مشدودين الى ربهم الذى يملك الحجه عليهم ‌فى‌ كل امورهم، فلا يستطيع ‌اى‌ وضع معين ‌فى‌ الواقع البشرى ‌ان‌ يدحضها، كما يملك القوه ‌و‌ السلطه اللتين ‌لا‌ تضعفان ‌و‌ ‌لا‌ تزولان امام ايه قوه اخرى لاى مخلوق ‌من‌ مخلوقاته.
 الويل الدائم لمن جنح عنك:
 
 كيف يتحرك- ‌يا‌ رب- هولاء الذين يجنحون عنك فلا يميلون اليك ‌فى‌ ‌ما‌ يريدون الحصول عليه ‌من‌ نتائج ايجابيه ‌فى‌ المصير؟!
 ‌و‌ كيف يفكر الذين يعيشون ‌فى‌ اجواء الخيبه منك بما يقومون ‌به‌ ‌من‌ الاعمال الشريره التى تقودهم الى فقدان الامل الكبير الذى يفتح حياتهم عليك، ‌و‌ كيف يواجهون الموقف الحاسم ‌فى‌ حركه البعد عن الله، ‌و‌ كيف يعيش اولئك الذين يخدعون انفسهم فيوحون لها بالامن ‌من‌ عذابك، انطلاقا ‌من‌ امهالك لهم، مما يدفعهم الى الجراه على معصيتك ‌و‌ الانحراف عن طريقك، فيبتعدون عنك ‌و‌ يقعون تحت تاثير غضبك.. ‌و‌ قد اردتهم ‌ان‌ ‌لا‌ يغتروا بك، ‌و‌ ‌لا‌ يستسلموا لاوهامهم التى يخيل اليهم ‌من‌ خلالها انك ‌لا‌ تواخذهم باعمالهم ‌و‌ اقوالهم المنحرفه، لان كرمك ‌لا‌ يعنى السماح بالفوضى ‌فى‌ ممارسه الناس لمسوولياتهم ‌فى‌ ‌ما‌ يتصل بحمايه الانسان ‌من‌ نفسه ‌و‌ حمايه الاخرين منه، ‌و‌ انقاذ الحياه ‌من‌ عسفه ‌و‌ ضلاله، فان الله يريد للناس ‌ان‌ يعبدوه ‌فى‌ كل اوامره ‌و‌ نواهيه على اساس صلاح امرهم ‌و‌ امر الحياه ‌من‌ حولهم، مما يجعل ‌من‌ الاساءه الذاتيه ‌فى‌ الطاعه، اساءه لنظام الوجود كله، ‌و‌ لكن الشيطان يخدعهم ‌و‌ يزين لهم ‌و‌ يوحى اليهم بالاحساس بالامن، فيقودهم الى الجراه عليك بمعصيتك فيدعوهم بذلك الى عذاب السعير.
 ‌ان‌ الويل الدائم- ‌فى‌ ‌ما‌ يعبر عنه ‌من‌ الهلاك ‌و‌ العذاب ‌و‌ الخزى ‌و‌ العار ‌فى‌ ايحاءات الكلمه- ينتظرهم ‌فى‌ ‌ما‌ ينتظرهم ‌من‌ العذاب الخالد ‌فى‌ جهنم، كما ‌ان‌ الخيبه الخاذله تواجههم بالنتائج السلبيه لخسارتهم الفرصه الطيبه التى تفتح لهم ابواب الخير ‌فى‌ الدنيا ‌و‌ الاخره، ‌و‌ ذلك ‌من‌ خلال خيبتهم منك ‌فى‌ ‌ما‌ فقدوه ‌من‌ رحمتك التى رفضوها، ‌و‌ لطفك الذى اهملوه.
 ‌و‌ ماذا بعد ذلك؟ فهناك الشقاء الاشقى الذى يختزن كل الهول ‌و‌ كل المراره ‌و‌ الالم ‌و‌ العذاب ‌من‌ خلال غضبك ‌و‌ سخطك ‌فى‌ كل مواقع المصير ‌فى‌ وجوده.
انه يواجه المستقبل الاسود ‌فى‌ رحله العذاب الالهى لامثاله ‌من‌ الكافرين ‌و‌ المتمردين على ارادتك، فسوف يكثر تقلبه ‌فى‌ عذابك، ‌و‌ سيطول تردده ‌فى‌ عقابك، فلا مجال للخروج منه، بل يرجع اليه مره بعد اخرى بعيدا عن كل راحه ‌و‌ عن كل نهايه، لان المساله قد تصل الى ‌حد‌ الياس ‌من‌ الفرج ‌فى‌ ‌ما‌ يعنيه البعد عن رحمتك بشكل نهائى، لانها وحدها التى يمكن ‌ان‌ تودى الى اقتراب الغايه ‌من‌ الفرج الذى يكشف الغم، ‌و‌ يدفع الانسان بعيدا عن ساحه الالام ‌فى‌ ساحه العذاب، ‌و‌ سيبقى الشقى ‌فى‌ داخل هذه الدوامه الجهنميه ‌من‌ دون ايه فرصه للخروج منها، لان الحكم الصادر ‌من‌ الله ‌هو‌ الخلود ‌فى‌ العذاب ‌فى‌ نار جهنم حيث ‌لا‌ يموت فيها ‌و‌ ‌لا‌ يحيى.
 ‌و‌ مهما كانت قسوه العذاب هناك، فان قضاءك- ‌يا‌ رب- ‌هو‌ القضاء العادل ‌فى‌ حكمك، لانه يرتكز على الانصاف الذى يضع كل شى ء ‌فى‌ موضعه ‌من‌ دون ‌اى‌ حيف على احد، لانك- ‌يا‌ رب- اعظم ‌و‌ اجل ‌من‌ ‌ان‌ تجور على خلقك، لان الظلم ‌هو‌ شان الضعفاء، ‌و‌ انت القوى الذى تنطلق قوته لتوكد الحياه كلها على اساس الرحمه ‌و‌ العدل ‌من‌ موقع الغنى الذاتى المطلق الذى يحتوى كل حاجات خلقه ‌من‌ دون ‌ان‌ يحتاج احدا منهم ‌فى‌ ‌اى‌ شى ء، ‌لا‌ ‌فى‌ وجوده ‌و‌ ‌لا‌ ‌فى‌ كل خصوصيات الوجود.
اللهم انك قد ظاهرت الحجج:
 
 ‌يا‌ رب، كلما نظرت، ‌و‌ انا عبدك العاصى المتمرد، الى ‌ما‌ وضعته ‌فى‌ كيانى ‌من‌ آيات ‌فى‌ دلالتها على انك الرب الذى ‌لا‌ ‌بد‌ ‌ان‌ اعبده، ‌و‌ ‌ما‌ خلقته ‌فى‌ الكون ‌من‌ عجائب ‌و‌ دلائل توحى بعظمتك ‌و‌ تدل على ربوبيتك المهيمنه على الحياه ‌و‌ على الانسان ، بحيث يقف الجميع خاشعين ‌فى‌ خشوع العبوديه المخلوقه امام الالوهيه الخالقه، ‌و‌ ‌ما‌ قدمت الى ‌و‌ انزلته على ‌من‌ كتب ‌و‌ رسالات، ‌و‌ ‌ما‌ ارسلته ‌من‌ رسل، ‌فى‌ ‌ما‌ يتضمن ذلك كله ‌من‌ انذار ‌و‌ تبشير ‌و‌ ترغيب ‌و‌ ترهيب بمختلف الاساليب التى تتلطف تاره ‌و‌ تعنف اخرى ‌فى‌ وعدها ‌و‌ وعيدها، ‌و‌ تنفذ الى العقل بوسائله الفكريه، ‌و‌ تنفتح على العاطفه بايحاءاتها الانفعاليه، ‌فى‌ توجيه الفكر الى فكر الرساله، ‌و‌ ‌فى‌ اجتذاب العاطفه الى مشاعرها ‌و‌ احاسيسها ‌و‌ اجوائها الروحيه، ‌و‌ ‌ما‌ حركته ‌من‌ الامثال المتنوعه ‌فى‌ مضمونها ‌و‌ اسلوبها ‌و‌ ايحاءاتها، ‌فى‌ ‌ما‌ قصصته علينا ‌من‌ قصص الاولين ‌و‌ الاخرين، ‌و‌ ‌فى‌ ‌ما‌ اثرته ‌من‌ حكايات، قدمته ‌من‌ نماذج انسانيه، لننطلق ‌من‌ خلال هذه الامثال، الى فكره جديده ‌و‌ آفاق جديده، ‌و‌ ننفتح ‌من‌ خلال نموذج على نموذج آخر، لتكون المساله ‌فى‌ المعنى الفكرى ‌او‌ الشعورى ‌او‌ الروحى اقرب الى الوعى ‌فى‌ حركه الواقع، فلا يبقى امام الانسان ‌اى‌ ريب ‌او‌ التباس.. كلما نظرت الى ذلك كله، ادركت انك قد اقمت على الحجه بما يحيط بكل مواقع فكرى ‌و‌ احساسى، فليس لى ايه حجه ذاتيه ‌فى‌ ‌ما‌ يمكن ‌ان‌ ابتعد ‌به‌ عن مواقع رضاك، ‌او‌ اقترب ‌به‌ ‌من‌ مواقع غضبك، ‌و‌ ‌لا‌ عذر لى ‌فى‌ ‌اى‌ انحراف عن خطك المستقيم، لانك اسقطت كل الاعذار التى يمكن ‌ان‌ اقدمها اليك ‌فى‌ ذلك كله.
 ثم درست كل الطافك بى، فانا اعصيك بمختلف الوان المعاصى، ‌و‌ ‌لا‌ تعاجلنى بالعقوبه، بل تمهلنى ‌و‌ تطيل مده الامهال، مع قدرتك على المعاجله ‌و‌ المبادره.
الهى لم تكن اناتك عجزا:
 
 ‌و‌ اذا كان بعض خلقك يترك المعاجله ‌و‌ يوخر العقوبه، ‌و‌ يتانى ‌فى‌ المبادره ‌فى‌ حاله الانتقام، ‌من‌ جهه العجز ‌و‌ الضعف ‌و‌ الغفله عن مواقع القدره ‌و‌ المداراه لبعض الظروف ‌او‌ الاشخاص، فانك ‌يا‌ رب اعلى ‌و‌ اعز ‌و‌ اجل ‌من‌ ‌ان‌ تكون اناتك ‌فى‌ تريثك ‌فى‌ العقاب عجزا، لانك القادر على كل شى ء، فلا يعجزك احد ‌من‌ خلقك ‌فى‌ ‌اى‌ شى ء، ‌او‌ يكون امهالك ‌و‌ هنا، فانك القوى الذى ‌لا‌ قوه لاحد معه فله القوه جميعا، فهو مصدر القوه لكل قوى، ‌او‌ يكون امساكك غفله فانت المهيمن على الامر كله الذى ‌لا‌ يفوته شى ء ‌من‌ اوضاع مخلوقاته، ‌و‌ عندك مفاتح الغيب التى ‌لا‌ يعلمها غيرك، ‌و‌ تعلم ‌ما‌ ‌فى‌ البر ‌و‌ البحر، ‌و‌ ‌لا‌ تسقط ورقه الا تعلمها ‌و‌ ‌لا‌ حبه ‌فى‌ ظلمات الارض ‌و‌ ‌لا‌ رطب ‌و‌ ‌لا‌ يابس الا ‌و‌ هى مخزونه ‌فى‌ علمك.. ‌او‌ يكون انتظارك مداراه، لانك اعظم ‌من‌ ‌ان‌ تحتاج الى مداراه احد ‌او‌ مجاملته ‌فى‌ ‌ما‌ تريد ‌ان‌ تفعله ‌او‌ تتركه..
 
 لتكن حجتك ‌فى‌ الحجه البالغه:
 
 ‌و‌ لكن المساله، ‌فى‌ حكمتك ‌و‌ رحمتك ‌و‌ لطفك، انك تريد ‌ان‌ تمنح عبادك الفرصه تلو الفرصه ‌فى‌ الوقت الطويل الذى يمتد بامتداد العمر، ليفكروا ‌فى‌ ‌ما‌ ياخذون ‌به‌ ‌او‌ يتركونه مما ينحرف عن خطك ‌و‌ يبتعد عن رضاك، لتكون حجتك ابلغ ‌و‌ اوضح، فلا يعتذر احد بالغفله ‌و‌ النسيان ‌و‌ الظروف الطارئه ‌و‌ الاوضاع الصعبه التى تمنعه عن وضوح الرويا للاشياء، ‌او‌ تحريك الاراده نحو الطاعه، لان ذلك قد يكون له معنى ‌فى‌ بعض الوقت، ‌و‌ لكن ‌لا‌ معنى له ‌فى‌ الوقت كله الذى تتساقط جميع الاعذار ‌فى‌ امتداده، ‌و‌ تتهاوى كل الحجج ‌فى‌ ابعاده، لتبقى حجتك هى الحجه البالغه المهيمنه على الخلق كلهم ‌و‌ الكون كله...
 ثم تكون القضيه ‌فى‌ مدلولها الروحى، انك تريد ‌ان‌ تعرف عبادك كيف ترعاهم ‌فى‌ حياتهم بكرمك ‌و‌ احسانك ‌و‌ نعمك، كاتم ‌ما‌ يكون الكرم ‌و‌ ‌او‌ ‌فى‌ ‌ما‌ يكون الاحسان ‌و‌ اتم ‌ما‌ تكون النعمه، لينفتحوا عليك ‌من‌ مواقع الكرم ‌و‌ الاحسان ‌و‌ النعمه، كما ينفتحون عليك ‌من‌ مواقع عظمتك، لينطلق عمق ايمانهم ‌و‌ صفاء روحيتهم ‌من‌ خلال العقل ‌و‌ الاحساس ‌و‌ الوجدان.
و تبقى حجتك ‌فى‌ درجه الجلال الاسمى، فلا يقترب احد ‌من‌ مداها لينعتها بكل ‌ما‌ تشتمل عليه ‌من‌ صفات، لانها ‌فى‌ امتدادها ‌فى‌ علمك ‌لا‌ تسمح لخلقك ‌ان‌ يحيطوابها، لان المحدود ‌لا‌ يملك ادراك العمق غير المحدود للمطلق ‌فى‌ ذاته، فكيف يمكن له ‌ان‌ يبلغ مدى حجتك لتكون حجته بالغه مداها لديه.
 اما مجدك ‌فى‌ سموه وسعته ‌و‌ عظمته ‌فى‌ حقيقته العليا، فهو اعلى ‌من‌ ‌ان‌ يبلغ الناس حدوده، لانه يحتوى المجد كله، فلا مجد الا ‌و‌ ‌هو‌ دونه، ‌و‌ ‌هو‌ مستمد منه، فكيف يبلغ العباد مداه.
 ‌و‌ نعمتك- ‌يا‌ رب- التى عاش الوجود كله ‌فى‌ بركاتها، فاتسعت لكل مخلوق، ‌و‌ تقلب الانسان ‌فى‌ نعيمها ‌فى‌ كل حياته.. يملك الانسان احصاء مفرداتها ‌و‌ هى ‌لا‌ متناهيه بحيث يصل الى جميع ابعادها، ‌و‌ كيف يملك الانسان الوصول الى نهايه ‌ما‌ يتجاوز قدرته، ‌و‌ يرتفع فوق وعيه، لانها تتحرك ‌فى‌ كل مواقع الوجود الظاهره ‌و‌ الخفيه، ‌و‌ تتجدد ‌فى‌ كل آن، فلا يستهلكها الزمن، ‌و‌ ‌لا‌ يحتويها الحس ‌و‌ الوجدان.
 ‌و‌ ينطلق احسانك ‌فى‌ ‌خط‌ نعمك، ‌و‌ ينفتح ‌فى‌ كل وقت على دور جديد ‌و‌ حركه جديده، ‌فى‌ ‌ما‌ تفيضه على عبادك منه، فهل نستطيع ‌ان‌ نشكرك عليه، ‌و‌ ‌هو‌ الذى ‌لا‌ نملك الوصول الى مستوى حجمه ‌و‌ علوه ‌و‌ معناه، ‌و‌ بذلك فاننا ‌لا‌ نستطيع الشكر على اقله ‌فى‌ ‌ما‌ يمكن ‌ان‌ تبلغه طاقتنا ‌من‌ الشكر، فكيف نستطيع الشكر على اكثره.
 انك- ‌يا‌ رب- العظيم ‌فى‌ مجدك، ‌و‌ انا الحقير ‌فى‌ كل ابعاد وجودى امامك، ‌و‌ انت الكبير ‌فى‌ حجتك، ‌و‌ انا الصغير ‌فى‌ كل منطلقاتى ‌و‌ حججى ‌و‌ اعذارى، ‌و‌ انت الكريم ‌فى‌ نعمك الرحيم ‌فى‌ عطائك، ‌و‌ انا البخيل ‌فى‌ عطائى، ‌و‌ انت اللطيف ‌فى‌ احسانك، ‌و‌ انا المذنب ‌فى‌ اساءتى ‌فى‌ كل افعالى، فكيف ادنو منك، ‌و‌ ارتفع الى سماء مجدك، ‌و‌ ابلغ احصاء نعمك ‌و‌ اقوم بواجب شكرك؟
و ‌ها‌ انا- ‌يا‌ رب- بين يديك اشعر بالصمت يلف كيانى، فلا يملك لسانى النطق، ‌و‌ ‌لا‌ يستطيع وجدانى الوعى، فقد سكت لسانى عن حمدك ‌فى‌ ‌ما‌ تستحقه ‌من‌ صفات الحمد، ‌و‌ قد امسك كيانى عن الانفتاح على آفاق مجدك، فلم اشعر الا بالفهاهه ‌فى‌ ‌ما‌ تعبر عنه ‌من‌ الحصر ‌فى‌ النطق بحيث احس بانى سجين القصور الذاتى عن ذلك.
 ‌و‌ ليس لى الا الاعتراف بالكلال ‌و‌ الانقطاع ‌و‌ الهزيمه امام مواقع العظمه ‌فى‌ ذاتك، ‌و‌ ‌ان‌ قررت الصمت- ‌يا‌ الهى- فليس عن رغبه فى، فانا احب ‌ان‌ اتحدث ‌و‌ اتحدث حتى ‌لا‌ يبقى مجال للحديث ‌فى‌ آفاق حمدك ‌و‌ مجدك، لانى- بذلك- اقترب ‌من‌ رضاك، ‌و‌ اسمو الى الوصول الى حبك، ‌و‌ لكنى اقف موقف الحائر التعب، على اساس العجز عن بلوغ مستوى حمدك ‌و‌ مجدك، فاجد الصمت ابلغ ‌من‌ الكلام، لان الكلمات، مهما كانت بليغه، ‌لا‌ يمكن ‌ان‌ تبلغ مداك الذى ‌لا‌ ‌حد‌ له ‌و‌ ‌لا‌ نهايه.
 
و ‌ها‌ انذا- ‌يا‌ رب- اقصدك بالوفاده الى ساحه رحمتك، ‌و‌ اسالك ‌ان‌ تحسن الى بالعطاء، ‌لا‌ عيش وعى المعرفه بك ‌من‌ خلال فيض لطفك الذى تغدقه على فكرى ‌و‌ روحى ‌فى‌ انفتاحى الواسع عليك، فاننى عندما اسالك حسن العطاء فاننى ‌لا‌ افكر بالعطاء المادى فحسب، بل افكر بالعطاء الفكرى ‌و‌ الروحى ‌و‌ العملى ‌فى‌ ‌ما‌ يمكن ‌ان‌ تفتحه لى ‌من‌ نوافذ الفكر ‌و‌ الروح ‌و‌ الحياه على ساحه حكمك ‌و‌ عظمتك.
 فهل اطمع- ‌يا‌ رب- ‌ان‌ تسمع نجواى ‌فى‌ كل آهاتها ‌و‌ ابتهالاتها ‌و‌ مشاعرها، ‌و‌ تستجيب دعائى ‌فى‌ كل حاجاتى ‌و‌ تطلعاتى ‌فى‌ مساله السعاده ‌فى‌ الدنيا ‌و‌ الاخره.. ‌و‌ هل آمل- ‌يا‌ رب- بان احصل منك على ‌ان‌ تجعل خاتمه يومى هذا خاتمه خير ‌و‌ نجاح بدلا ‌من‌ ‌ان‌ تكون خاتمه ‌شر‌ ‌و‌ خيبه ‌و‌ فشل؟
 ‌و‌ هل افكر بان تنفتح برحمتك على مسالتى ‌لا‌ جد لديك الاستجابه لكل ‌ما‌ سالتك ، فلا تجابهنى بالرد ‌و‌ الحرمان.. ‌و‌ هل اجد ‌فى‌ منصرفى عن موقفى هذا- بعد انقطاعى اليك ‌و‌ اتجاهى نحوك- الاكرام ‌و‌ الرعايه ليكون منصرفى ‌من‌ عندك محفوفا بالكرامه؟ ‌و‌ هل اجد لديك مثل ذلك ‌فى‌ رجوعى اليك، كلما احسست بالرغبه ‌فى‌ العوده الى ساحه عبادتك، ‌و‌ الحصول على السعاده ‌فى‌ كرامتك ‌و‌ رعايتك..
 اننى اطمع ‌فى‌ لطفك ‌و‌ عطفك ‌فى‌ سماع نجواى ‌و‌ استجابه دعائى ‌و‌ نجاح مسالتى ‌و‌ قضاء حاجتى، ‌و‌ الانفتاح على بالكرامه ‌فى‌ منصر ‌فى‌ ‌و‌ منقلبى، لانك ‌لا‌ تضيق بما تريد فلا يشق عليك شى ء منه، ‌و‌ ‌لا‌ انت عاجز عما تسال ‌من‌ قضايا الناس ‌و‌ حوائجهم، ‌و‌ انت على كل شى ء قدير، فكل الاشياء تنحنى امام قدرتك ‌و‌ كل الصعاب تتحطم امام ارادتك مما سالك السائلون ‌او‌ رغب اليك الراغبون.
 ‌و‌ نحن- ‌يا‌ رب- ‌فى‌ ‌ما‌ نتطلع اليه ‌من‌ حول ‌او‌ قوه، ‌فى‌ ساحات ضعفنا، ‌لا‌ نتطلع الى قوه ذاتيه ‌فى‌ وجودنا ‌و‌ ‌لا‌ الى قدره انسانيه ‌فى‌ كياننا بل نتطلع الى حولك ‌و‌ قوتك ‌فى‌ ‌ما‌ تهبنا- ‌فى‌ اجسادنا- ‌من‌ حياه ‌و‌ ‌فى‌ ‌ما‌ تهبنا ‌فى‌ حركتنا ‌من‌ قوه، ‌و‌ ‌فى‌ ‌ما‌ تمنحنا ‌فى‌ وجودنا ‌من‌ قدره.. ‌يا‌ ربنا العلى ‌فى‌ مجدك العظيم ‌فى‌ شانك.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخرین مطالب

دعاوه فى الصلاه على حمله العرش و كل ملك مقرب
دعاوه فى الالحاح على الله تعالى
دعاوه فى یوم الاضحى و یوم الجمعه
دعاوه اذا استقال من ذنوبه
دعاء دخول شهر رمضان
دعاوه عند الصباح و المساء
دعاوه فى طلب العفو و الرحمه
دعاوه لنفسه و اهل ولایته
و كان من دعائه (علیه السلام) بعد الفراغ من صلاه ...
دعاوه عند الشده و الجهد و تعسر الامور

بیشترین بازدید این مجموعه


 
نظرات کاربر

پر بازدید ترین مطالب سال
پر بازدید ترین مطالب ماه
پر بازدید ترین مطالب روز



گزارش خطا  

^