دعاوه فى التذلل لله عز و جل
و يبقى الانسان الواعى الايمانه فى معرفته بمقام ربه يعيش الحضور الروحى مع الله فى معنى العبوديه الخالصه للربوبيه الرحميمه الحانيه، فيبدا فى التذلل له فى كلماته و حركاته و احاسيسه و مشاعره بالطريقه التى يرتفع بها بروحه اليه، حيث يجد الله منه صدق الاخلاص فى صدق الاحساس بالذل العبودى امامه فى معنى العزه الانسانيه من خلاله، لان الذل معه يعنى العز مع غيره.
و هكذا ينطلق هذا الدعاء فى تعبير عن الموقف الذى يشعر فيه الانسان المومن بان ذنوبه قد اصابته بالافحام و انقطاع الكلام، لان الله قد اقام عليه الحجه فى ذلك من خلال عقله و وحى الرساله و حريه الحركه فى الاراده، فلم تبق له حجه فى عصيانه، مما يجعله يقف موقف الاسير ببليته فى ابتعاده عن طاعه الله، و المرتهن بعمله الذى يجعله رهينه بما كسب من السيئات، فلا مكان له الا بعفو الله، و المتردد فى خطيئته بحيث يذهب فيها و يجى ء، فلا يخرج من حاله الا ليرجع اليها، لتكون حركته محاصره بالخطيئه التى تحكم امره، و المتحير عن الخط المستقيم الذى يصل بالانسان الى الرشد العملى، و هكذا يودى هذا السير فى دروب الخطيئه الى ان يقف الانسان امام ربه موقف الاذلاء الذين لا يملكون الاعتذار من ذنوبهم المحيطه بهم، و الاشقياء الذين غلبت عليهم شقوتهم بسيطره غرائزهم الملتهبه المنحرفه عليهم بفعل جراتهم على الله و استخفافهم بوعده فى يوم القيامه.
و ينطلق التسبيح فى موقف التعظيم لله ليتساءل الانسان مع ربه - فى موقف توبيخ للذات - عن حجم الجراه التى تجراء بها عليه، و عن مقدار الخطر الذى قاد اليه نفسه، ليتحول من ذلك الى الاستعطاف و التذلل لله عز و جل، ان يرحم سقوطه لوجهه على سبيل الكنايه للتعبير عن سقوطه فى تجربه الطاعه بالوقوع فى المعصيه، و زله قدمه و ابتعادها عن الخط المستقيم بالانحراف عن طريق الله، و بان يتفضل عليه بحلمه الذى يتجاوز جهله، و باحسانه الذى يعفو عن اساءته.
انه موقف الانسان المعترف بذنبه و خطيئته الذى يقدم نفسه، و يمد يده، و يحنى راسه للقصاص العادل الذى يستحقه جزاء لمعاصيه، و يطلب منه ان يرحم شيبته التى توذن باقتراب اجله و نفاد عمره و ضعفه الجسدى، و مسكنه موقفه، و قله الوسائل التى يملك فيها الفرصه للخلاص من ذنوبه بشكل ذاتى.
و يزداد الموقف ابتهالا ليتذكر الانسان المصير الذى ينتظره بعد الموت عندما ينقطع اثره فى الدنيا، فلا يبقى له اى وجود فى الموجودات، و يمحى ذكره من الالسن، فلا يتذكره احد، و ينساه الناس فلا يبقى له اثر فى الذاكره، و يغيب فى آفاق النسيان.
و يزداد الموقف ماساه عندما يفكر الانسان بان الموت اذا نزل به و اودع فى قبره فستتغير صورته و تتقطع اوصاله و تتفرق اعضاوه، فيفقد هذا التوازن فى جسده ليعود مزقا متناثره فى التراب فيتحول - بعدها - الى تراب.
و يتذكر انه عاش غافلا عن تصور ذلك، و عن النتائج الغامضه التى سوف يقبل عليها فى آخرته، و ينتهى الدعاء بالطلب الى الله ان يرحمه فى يوم الحشر و ساعه النشور، ليكون مع اولياء الله الصديقين فى موقف الرضوان، و مع احباء الله الطيبين فى صدورهم الى الله، و فى جوار الله مسكنه.
انها التمنيات الايمانيه التى يعيشها الانسان المومن فى تفكيره بالموقف العظيم يوم القيامه لينال من الله درجه الرضوان فى دار القرار.
و بذلك يتحول الدعاء الى حاله من التعبئه الروحيه التى ترتفع بالانسان الى الله، ليجد فى رحاب القرب منه كل مغفره و رضوان.
رب افحمتنى ذنوبى، و انقطعت مقالتى، فلا حجه لى، فانا الاسير ببليتى، المرتهن بعملى، المتردد فى خطيئتى، المتحير عن قصدى، المنقطع بى.
قد اوقفت نفسى موقف الاذلاء المذنبين، موقف الاشقياء المتجرين عليك، المستخفين بوعدك، سبحانك اى جراه اجترات عليك، و اى تغرير غررت بنفسى.
سبحانك اى جراه اجترات عليك:
يا رب، ها انا عبدك الماثل امامك بكل احساسى بالحيره و الخجل و التمزق النفسى، و ذنوبى التى تتحرك فى كل تاريخى العملى تصيبنى بالصمت الصارخ فى الداخل الذى لا املك فيه ايه حجه لكل ممارساتى فى عصيان اوامرك و نواهيك، فلا اجد ايه كلمه يمكن ان تكون تعبيرا حيا عن مبرر لى فى ذلك كله.
فها انذا فى موقف الماسور المقيد بالوان البلاء المحيطه بحياتى كلها، المحبوس فى نطاق عملى الذى اتحرك فى داخله فى حلقه مفرغه لا اعرف كيف اخرج منها، لاننى تحولت الى رهينه عنده كما جاء فى القرآن الكريم: (كل امرى ء بما كسب رهين) (الطور: 21) و (كل نفس بما كسبت رهينه) (المدثر: 38)، فهو كالدين الذى لا ينفك رهنه الا اذا اداه، و كيف اودى هذا الدين الالهى بهذا العمل السيى ء الذى لا رجاء معه لاى خير فى حساب الله.
و انا السائر فى خطيئتى ذاهبا جائيا على غير هدى او استقامه او تركيز، فلا املك الخلاص منه، فلا اتركه اليوم الا لاعود اليه غدا، و انا المتحير فى اتجاه الخط المستقيم فلا اعرف نقطه الانطلاق اليه، و انا المسافر الذى انقطعت به الطريق فلم يبلغ مداه و لم يصل الى غايته، فكيف يمكننى - و الحال هذه - مواصله خط السير اليك؟
ها انذا - يا رب - فى موقفى هذا الذى اقف فيه بسوء اختيارى، موقف الاذلاء المذنبين الذين اكسبهم الذنب ذل الوقوف المعذب بين يديك، لا موقف الاعزاء الطائعين الذين اكسبتهم الطاعه عز الثواب عندك.
و هذا هو موقف الاشقياء الذين امتدت شقوتهم فى اعمالهم من خلال الجراه عليك و الاستخفاف بوعدك، فلا يخافون مقامك، و لا يبالون بالحديث عن يوم القيامه: (يوم يقوم الناس لرب العالمين) (المطففين: 6) (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا و الامر يومئذ لله) (الانفطار: 19)، لينطلق النداء الالهى قويا صارخا: (و قفوهم انهم مسئوولون) (الصافات: 24) (و وضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه و يقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيره و لا كبيره الا احصاها و وجدوا ما عملوا حاضرا و لا يظلم ربك احدا) (الكهف: 49).
سبحانك - يا رب - اننى اقف فى موقف المعاناه الروحيه التى تمنعنى من الاحساس بالثبات فى موقفى امامك، لان الجراه التى تجرات بها عليك فاقت كل جراه، و لان الخطر الذى اوقعت نفسى فيه يدفع بى الى الهلاك فى المصير، فكيف اواجه ذلك كله و كيف اتخفف من نتائجه السلبيه الحاسمه؟ كيف؟
الهى ارحم شيبتى و نفاد ايامى...
يا رب، انا عبدك الضعيف الذليل الحقير المسكين المستكين، لقد اسقطتنى ذنوبى على صفحه وجهى فى كبوه قاسيه فقدت فيها توازن الموقف، و زلت بى القدم حتى كدت اقع فى هاويه السقوط الروحى بفعل الخطايا، فامنحنى رحمتك الحانيه، و ارفعنى عن مواضع السقوط كما وضعت لك نفسى، و اعطنى من حلمك سعه العفو التى تتجاوز جهلى فى عملى الشرير، و اطرد اساءتى عن ساحه حياتى باحسانك الذى يحول الاساءه الى حاله احسان من خلال تغيير الواقع فى حياتى، فاذا كنت قد اسرفت على نفسى بخطاياى، فانى اقف موقف المقر بالذنب، المعترف بالخطيئه، الماديده فى اشاره الاستسلام، الذى يقدم ناصيته فى موقف القصاص فى انحناء ذاتى امام عدل الله فى الاقتصاص منه على جنايته.
يا رب، و لقد بلغت من الكبر عتيا، و انتشر الشيب فى راسى كنذير بفنائى، و نفاد ايامى و اقتراب اجلى، و ضعف جسدى، و مسكنتى فى غياب الفرص التى تمنحنى النجاه من موقع القوه، و قله حيلتى فى الحصول على النتائج الايجابيه الكبرى من ناحيه ذاتيه، و ذلك كله - يا رب - هو المبرر لى فى طلب الرحمه فارحمنى.
مولاى ارحمنى اذا انقطع من الدنيا اثرى:
يا رب ساموت و اغيب فى حفره ضيقه اغيب فيها عن ساحه الحضور البشرى المتحرك فى دنيا الناس، فلا يبقى لى اى حس و اى اثر، و ابتعد عن كل الوان الحديث الانسانى الذى تتحرك ذكرى الامس لديه، و تبداء بالغياب حتى تمحى من الذاكره، فلا يبقى فيها شى ء من اشخاصه و اصدائه، و ينطوى ذكرى من وجدان الناس و من السنتهم، فيلفنى النسيان فيمن يلف من الماضين فى غمار التاريخ المنسى.
و سيزحف الفناء الى جسدى، فتتغير صورتى، و تتفرق اعضائى، و تتمزق اوصالى، فاذا بذلك الانسان الكامل المتمثل فى وجودى يتحول الى فرق متناثره، و اوصال مقطعه، و اعضاء متفرقه، و يمتد الفناء فتتحول الى تراب اى تراب تسفيه الرياح، فلا يبقى لهذا الجسد الذى عصى الله للذته و شهوته و راحته كما لو كان هو القيمه فى الانسان، او كما لو كان خالدا فى وجوده، و كنت غارقا فى الغفله المطبقه على عقلى و قلبى و شعورى و حركتى فى الحياه، فلم انتبه الى ما يراد بى من الفناء فى نهايه المطاف فى الدنيا، و فى انفتاح الموقف على نتائج المسئووليه فى الاخره فى حسابها و ثوابها و عقابها، فايه غفله هذه الغفله التى تجر الانسان الى الجحيم،
ارحمنى - يا رب - فى هذه النهايه القاسيه، و ارحمنى عندما ياتى يوم النشور فى ساحه الحشر، لاكون - فى موقفى فى ذلك اليوم - مع اوليائك من النبيين و الصديقين و الشهداء و حسن اولئك رفيقا، من خلال توفيقك لى فى الاخذ باسباب الولايه لك فى حركه الطاعه على خط الاستقامه فى توحيدك، و لاكون صادرا اليك مع احبائك الذين احببتهم لايمانهم و لعملهم الصالح، و لا عيش فى جوارك فى دار قدسك و ساحه رضوانك و نعيم جنتك، يا رب العالمين.