خطبة الإمام السجاد في الکوفة
بعد أن خطبت أم کلثوم (عليها السلام)، أومأ الإمام زين العابدين (عليه السلام) إلي الناس، أن اسکتوا! فسکتوا، فقام قائماً، فحمد الله وأثني عليه، وذکر النبي (صلي الله عليه وآله)، ثم قال:
(أيها الناس: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (صلوات الله عليهم)، أنا ابن المذبوح بشط الفرات، من غير ذحل ولا ترات , أنا ابن من انتهک حريمه، وسلب نعيمه، وانتهب ماله، وسبي عياله، أنا ابن من قتل صبراً، وکفي بذلک فخراً.
أيها الناس: ناشدتکم بالله، هل تعلمون إنّکم کتبتم إلي أبي وخدعتموه، وأعطيتموه من أنفسکم العهد والميثاق والبيعة، ثمّ قاتلتموه وخذلتموه، فتباً لکم لما قدّمتم لأنفسکم، وسوأة لرأيکم، بأية عين تنظرون إلي رسول الله (صلي الله عليه وآله)، إذ يقول لکم: قتلتم عترتي، وانتهکتم حرمتي، فلستم من أمّتي).
فارتفعت أصوات الناس بالبکاء من کل ناحية، ويقول بعضهم لبعض: هلکتم وما تعلمون؟
فقال (عليه السلام): (رحم الله امرأ قبل نصيحتي، وحفظ وصيتي في الله، وفي رسوله وأهل بيته، فإن لنا في رسول الله أسوة حسنة).
فقالوا بأجمعهم: نحن کلّنا يا ابن رسول الله سامعون مطيعون، حافظون لذمامک، غير زاهدين فيک، ولا راغبين عنک، فمُرنا بأمرک يرحمک الله، فإنّا حرب لحربک، وسلم لسلمک، لنأخذن يزيد ونبرآ ممّن ظلمک وظلمنا.
فقال (عليه السلام): (هيهات هيهات، أيّها الغدرة المکرة، حيل بينکم وبين شهوات أنفسکم، أتريدون أن تأتوا إليّ کما أتيتم إلي آبائي من قبل؟ کلاّ ورب الراقصات إلي مني، فإنّ الجرح لمّا يندمل، قتل أبي بالأمس وأهل بيته ومن معه، ولم ينسني ثکل رسول الله، وثکل أبي وبني أبي، ووجده بين لهاتي، ومرارته بين حناجري وحلقي، وغصصه تجري في فراش صدري، ومسألتي أن لا تکونوا لنا ولا علينا).
خطبة الإمام السجاد في المدينة المنوّرة
ألقي الإمام زين العابدين (عليه السلام) خطاباً في أهل المدينة المنوّرة لدي عودته من الشام والعراق، حيث جمع الناس خارج المدينة قبل دخوله اليها، وخطب فيهم قائلاً:
(الحمد لله ربّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالک يوم الدين، بارئ الخلائق أجمعين، الذي بَعُد فارتفع في السماوات العُلي، وقَرُب فشهد النجوي، نحمده علي عظائم الأمور، وفجائع الدهور، وألم الفجائع، ومضاضة اللواذع، وجليل الرزء، وعظيم المصائب الفاظعة الکاظّة الفادحة الجائحة.
أيّها القوم: إنّ الله وله الحمد، ابتلانا بمصائب جليلة، وثلمة في الإسلام عظيمة، قُتل أبو عبد الله الحسين (عليه السلام)، وسُبي نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان، وهذه الرزية التي لا مثلها رزيّة.
أيّها الناس: فأي رجالات منکم يسرّون بعد قتله؟! أم أيّ فؤاد لا يحزن من أجله؟! أم أيّة عين منکم تحبس دمعها وتضنّ عن انْهمالِها؟! فلقد بکت السبع الشداد لقتله، وبکت البحار بأمواجها، والسماوات بأرکانها، والأرض بأرجائها، والأشجار بأغصانها، والحيتان ولجج البحار، والملائکة المقرّبون وأهل السماوات أجمعون.
يا أيّها الناس: أيّ قلب لا ينصدع لقتله؟! أم أيّ فؤاد لا يحنّ إليه؟! أم أيّ سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ولا يصمّ؟!
أيّها الناس: أصبحنا مطرودين مشرّدين مذودين وشاسعين عن الأمصار، کأنّا أولاد ترک وکابل، من غير جرم اجترمناه، ولا مکروه ارتکبناه، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين، إنْ هذا إلاّ اختلاق.
والله، لو أنّ النبي (صلي الله عليه وآله) تقدّم اليهم في قتالنا، کما تقدّم اليهم في الوصاية بنا، لما زادوا علي ما فعلوا بنا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، من مصيبة ما أعظمها، وأوجعها وأفجعها، وأکظّها وأفظعها، وأمرّها وأفدحها، فعند الله نحتسب فيما أصابنا، وأبلغ بنا، فإنّه عزيز ذو انتقام).
خطبة الإمام السجاد في مسجد دمشق
ورد في کتاب فتوح ابن اعثم 5 / 247، ومقتل الخوارزمي 2 / 69:
أن يزيد أمر الخطيب أن يرقي المنبر، ويثني علي معاوية ويزيد، وينال من الإمام علي والإمام الحسين، فصعد الخطيب المنبر، فحمد الله وأثني عليه، وأکثر الوقيعة في علي والحسين، وأطنب في تقريض معاوية ويزيد، فصاح به علي بن الحسين: (ويلک أيها الخاطب، اشتريت رضا المخلوق بسخط الخالق؟ فتبوأ مقعدک من النار).
ثم قال: (يا يزيد ائذن لي حتي أصعد هذه الأعواد، فأتکلم بکلمات فيهن لله رضا، ولهؤلاء الجالسين أجر وثواب)، فأبي يزيد، فقال الناس: يا أمير المؤمنين ائذن له ليصعد، فعلنا نسمع منه شيئاً، فقال لهم: إن صعد المنبر هذا، لم ينزل إلا بفضيحتي، وفضيحة آل أبي سفيان، فقالوا: وما قدر ما يحسن هذا؟ فقال: إنه من أهل بيت قد زقوا العلم زقا.
ولم يزالوا به حتي أذن له بالصعود، فصعد المنبر، فحمد الله وأثني عليه، وقال: (أيها الناس، أعطينا ستاً، وفضلنا بسبع: أعطينا العلم، والحلم، والسماحة والفصاحة، والشجاعة، والمحبة في قلوب المؤمنين، وفضلنا بأن منا النبي المختار محمد (صلي الله عليه وآله)، ومنا الصدّيق، ومنا الطيار، ومنا أسد الله وأسد الرسول، ومنا سيدة نساء العالمين فاطمة البتول، ومنا سبطا هذه الأمّة، وسيدا شباب أهل الجنة، فمن عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي: أنا ابن مکة ومني، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الزکاة بأطراف الرداء، أنا ابن خير من ائتزر وارتدي، أنا ابن خير من انتعل واحتفي، أنا ابن خير من طاف وسعي، أنا ابن خير من حج ولبّي، أنا ابن من حمل علي البراق في الهواء، أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي، فسبحان من أسري، أنا ابن من بلغ به جبرائيل إلي سدرة المنتهي، أنا ابن من دنا فتدلي، فکان قاب قوسين أو أدني، أنا ابن من صلّي بملائکة السماء، أنا ابن من أوحي إليه الجليل ما أوحي، أنا ابن محمد المصطفي، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق، حتي قالوا لا اله إلا الله، أنا ابن من بايع البيعتين، وصلّي القبلتين، وقاتل ببدر وحنين، ولم يکفر بالله طرفة عين، يعسوب المسلمين، وقاتل الناکثين والقاسطين والمارقين، سمح سخي، بهلول زکي، ليث الحجاز، وکبش العراق، مکّي مدني، أبطحي تهامي، خيفي عقبي، بدري أحدي، شجري مهاجري، أبو السبطين، الحسن والحسين، علي بن أبي طالب، أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيدة النساء، أنا ابن بضعة الرسول...).
قال: ولم يزل يقول: أنا أنا، حتي ضج الناس بالبکاء والنحيب، وخشي يزيد أن تکون فتنة، فأمر المؤذّن يؤذّن، فقطع عليه الکلام وسکت، فلمّا قال المؤذّن: الله أکبر.
قال علي بن الحسين: (کبرت کبيراً لا يقاس، ولا يدرک بالحواس، ولا شيء أکبر من الله)، فلمّا قال: أشهد أن لا اله إلا الله، قال علي: (شهد بها شعري وبشري، ولحمي ودمي، ومخي وعظمي)، فلمّا قال: أشهد أن محمداً رسول الله، التفت علي من أعلا المنبر إلي يزيد، وقال: (يا يزيد محمد هذا جدّي أم جدّک؟ فإن زعمت أنه جدّک فقد کذبت، وان قلت أنه جدّي، فلم قتلت عترته؟).
قال: وفرغ المؤذّن من الأذان والإقامة، فتقدّم يزيد، وصلّي الظهر، فلمّا فرغ من صلاته، أمر بعلي بن الحسين، وأخواته وعماته (رضوان الله عليهم)، ففرغ لهم دار فنزلوها، وأقاموا أياماً يبکون، وينوحون علي الحسين (عليه السلام).
خطبة الإمام السجاد يحذر فيها من الدنيا
بعدما حمد الله تعالي، وأثني عليه، وذکر جدّه فصلّي عليه، ثمّ قال:
(أيّها الناس أحذّرکم من الدنيا وما فيها، فإنّها دار زوال وانتقال تنتقل بأهلها من حال إلي حال، وهي قد أفنت القرون الخالية والأمم الماضية، وهم الذين کانوا أکثر منکم مالاً، وأطول اعماراً، وأکثر آثاراً، أفنتهم أيدي الزمان، وأحتوت عليهم الأفاعي والديان، أفنتهم الدنيا فکأنّهم لا کانوا لها أهلاً ولا سکّاناً، وقد أکل التراب لحومهم، وأزال محاسنهم، وبدّد أوصالهم وشمائلهم، وغيّر ألوانهم، وطحنتهم أيدي الزمان، أفتطمعون بعدهم بالبقاء؟
هيهات هيهات فلابد من الملتقي، فتدبّروا ما مضي من عمرکم وما بقي، ما فعلوا فيه ما سوف يلتقي عليکم بالأعمال الصالحة قبل انقضاء الأجل، وفروغ الأمل، فعن قريب تؤخذون من القصور إلي القبور، حزينين غير مسرورين، فکم والله من فاجر قد استکملت عليه الحسرات، وکم من عزيز وقع في مسالک الهلکات، حيث لا ينفعه الندم، ولا يغاث من ظلم، وقد وجدوا ما أسلفوا، واحذروا ما تزوّدوا، ووجدوا ما عملوا حاضراً، ولا يظلم ربّک أحداً، فهم في منازل البلوي همود، وفي عسکر الموتي خمود، ينتظرون صيحة القيامة، وحلول يوم الطامّة، (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَي).