بسم الله الرحمن الرحيم و به نستعين
الحمد لله الذى جعل الدار الاخره هى العليا و شرف الراغبين فيها على اصحاب الدنيا، والصلاه والسلام على نبيه الهادى الى رضائه و على اهل بيته الراضين بحكمه و قضائه.
و بعد: فهذه الروضه الخامسه و الثلاثون من رياض السالكين، فى شرح الدعاء الخامس و الثلاثين من صحيفه سيدالعابدين، صلوات الله عليه و على آبائه و ابنائه الائمه الراشدين، املاء راجى فضل ربه السنى على صدرالدين الحسينى الحسنى وفقه الله لمراضيه، و جعل غابره خيرا من ماضيه.
الرضا لغه: خلاف السخط. قال الجوهرى: هو- مقصورا- مصدر محض. و الاسم الرضاء بالمد عن الاخفش.
و عرفا: سرور القلب بجريان القضاء و يقال: رضيت الشى ء، و رضيت به، اذا اخترته، كارتضيته، و قد يقال: رضيت بالشى ء اذا قنعت به.
قال النووى فى شرح مسلم: رضى بالله ربا. اى قنع به و لم يطلب معه غيره، بان يسلك غير ما شرعه.
و اراده هذا المعنى هنا صحيحه.
و النظر: تقليب البصر، او البصيره، لرويه الشى ء و ادراكه. و يقال: نظرت اليه اذا رايته، و هو المراد هنا.
و الاصحاب: جمع صاحب، و هو الملازم لشى ء انسانا كان او غيره. و لا فرق بين ان يكون مصاحبه بالبدن، و هو الاصل و الاكثر، او العنايه و الهمه، و لا يقال فى
العرف الا لمن كثرت ملازمته، و يقال لمالك المال: هو صاحبه، و كذلك من يملك التصرف فيه. و منه عباره المتن.
و الدنيا: نقيض الاخره، و هى تانيث الادنى، سميت بها هذه الدار لدنوها. و الاصل الدار الدنيا، فحذفت موصوفها، و اجريت مجرى الاسماء، فانسلخت عن معنى الوصفيه. و المراد اصحاب متاع الدنيا، فهى مجاز مرسل من باب تسميه الشى ء باسم محله، نحو «فليدع ناديه» «و سئل القريه». و الله اعلم.
«رضا» اما مفعول مطلق، اى حمد رضا، او حال، اى راضيا، او مفعول لاجله، اى للرضا: و ايا ما كان فالعامل الحمد المذكور، لانه مصدر، و هو يعمل عمل فعله.
و ما وقع لبعضهم، ان العامل محذوف لئلا يلزم عمل المصدر المعرف مبنى على مذهب بعضهم، و فيه اربعه مذاهب:
مذهب الخليل و سيبويه جوازه مطلقا من غير قبح سواء عاقبت آله التعريف فيه الضمير ام لا.
و الحكم: القضاء، و اصله المنع، يقال: حكم بكذا، اذا منع من خلافه.
و وضع الظاهر موضع المضمر و لم يقل: بحكمه لتعظيم الحكم، و قصد تقويه داعيه الرضا.
و شهدت: اى علمت. و اصله من الشهود، بمعنى الحضور مع المشاهده بالبصر، ثم اطلق على المشاهده بالبصيره ايضا، و هى العلم، و منه اشهد ان لا اله الا الله.
و القسم: افراز النصيب، يقال: قسمت كذا قسما- من باب ضرب- و منه قسمه الغنيمه، و هو تفريقها على اربابها، بافراز نصيب كل منها.
و المعايش: جمع معيشه، و هى ما يعيش به الانسان من المطاعم و الملابس، و غيرهما مما يتعلق به البقاء. و اشتقاقها من العيش، و هو الحياه المختصه بالحيوان، فهو اخص من مطلق الحياه، لان الحياه تطلق على الحيوان، و على البارى تعالى بخلاف العيش، فالميم فى المعيشه زائده.
و وزن المعايش مفاعل فلا تهمز و به قرا السبعه و قرا الاعرج، و ابوجعفر المدنى بالهمز تشبيها لها بالشمائل.
و قال الفيومى فى المصباح: و قيل: هى من معش، فالميم اصليه، و وزن معيشه و معائش فعيله و فعائل. انتهى. و هو غريب.
و العدل: التقسيط على سواء. فتاره يراد به السواء، باعتبار المقدار، و منه قوله سبحانه: «و لن تستطيعوا ان تعدلوا بين النساء» اى فى مقدار المحبه، اشاره الى ما عليه جبله الانسان من الميل، فالانسان لا يقدر ان يسوى بينهن فى المحبه، و تاره باعتبار الحكمه و الانتظام، و منه ما روى: بالعدل قامت السماوات و الارض تنبيها على انه لو كان شى ء مما قامتا به، زائدا عما هو عليه، او ناقصا عنه على غير ما اقتضته الحكمه لم يكن العالم منتظما. فانتظامه بتقدير ذلك على ما يليق بقوامه و قيامه. و هذا المعنى هو المراد هنا، اى بعدل اقتضته الحكمه البالغه. و لذلك متى وصف الله سبحانه بالعدل فانما يراد ان افعاله واقعه على نهايه الحكمه و الانتظام.
و فى الدعاء اشاره الى قوله سبحانه: «نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحياه الدنيا» فان العدل لا يكون قسمه الا عدلا، و لا يتجاوز الى افراط و تفريط. و فى الحديث القدسى «و ان من عبادى لا يصلحه الا الفقر، و لو اغنيته لافسده ذلك، و ان من عبادى من لا يصلحه الا الغنى، و لو افقرته لافسده ذلك». فاغناء من لا يصلحه الا الفقر افراط، و افقار من لا يصلحه الا الغنى تفريط، و العدل هو مابه اصلاح كل منهما، فثبت اتصاف قسمته تعالى بالعدل.
قوله عليه السلام «و اخذ على جميع خلقه بالفضل».
«اخذ» هنا من الاخذ بمعنى السيره، يقال: لو كنت منا لاخذت باخذنا، اى: سرت بسيرتنا، و منه الحديث «لا تقوم الساعه حتى تاخذ امتى باخذ القرون».
قال الكرمانى: هو- بكسر الهمزه و فتحها-: السيره.
اى تسير امتى بسيرتهم. فقوله: «بالفضل» متعلق باخذ. و قوله: «على جميع خلقه» متعلق بالفضل، كقوله تعالى: «و لولا فضل الله عليكم».
و لا يمنع من تعلقه به ما اشتهر من ان معمول المصدر لا يتقدم عليه. لان ذلك حيث يتقدر المصدر بان و الفعل، لانه حينئذ من باب تقديم الصله على الموصول، و هو ممتنع، كقولك: اعجبنى عن الشر بعدك، اى: ان تبعد، فالظرف متعلق بعامل مقدر يفسره المتاخر، و التقدير: اعجبنى بعدك عن الشر بعدك. و اما اذا لم يقدر المصدر بان و الفعل فيجوز تقديم معموله عليه اذا كان ظرفا و شبهه، لانتفاء المانع نحو
«و لا تاخذكم بهما رافه». و منه قول كعب فى قصيدته المشهوره:
ضخم مقلدها فعم مقيدها
فى خلقها عن بنات الفحل تفضيل
قال ابن هشام فى شرحه لهذه القصيده: «عن» بمعنى «على»، و هى متعلقه بتفضيل و ان كان مصدرا لانه ليس منحلا ل(ان و الفعل). و من ظن ان المصدر لا يتقدمه معموله مطلقا فهو و اهم انتهى.
و الفضل هنا بمعنى الافضال و الطول، و هو كل احسان لا يلزم المحسن ان يفعله، بل يكون ابتداء منه.
و المعنى: انه تعالى سار فى جميع خلقه بالفضل عليهم و الاحسان اليهم. و ذلك انه مبتدى بما لا يلزمه، و الابتداء بما لا يلزم هو الفضل، فافعاله كلها عدل، و عدله كله فضل.
اذا عرفت ذلك، فاعلم انه وقع لجماعه ممن كتب على الصحيفه الشريفه هنا تفسيرات عجيبه.
منها: تفسير بعضهم اخذ بمعنى تناول، من قولهم: اخذ بيده اذا اعانه و امده.
قال: و مفعول اخذ محذوف بقرينه جميع خلقه. و تعلق على باخذ لتضمين معنى الاستيلاء و الغلبه، يعنى اخذ بيد جميع المخلوقات بفضله فى حاله استيلائه و غلبته على جميع مخلوقاته. انتهى بالمعنى.
و منها: تفسير بعضهم اخذ بمعنى الزم، اى الزمهم الفضل، يعنى ان يتفضل بعضهم على بعض.
و منها: قول بعضهم الاخذ يكون بمعنى السيره فيتعدى ب«على». و على و بالفضل، متعلقان باخذ. انتهى.
فاعجب لقوم هذا مبلغهم من العلم كيف سولت لهم انفسهم التصدى لكلام
المعصومين عليهم السلام، نسال الله الهدايه الى سواء السبيل. و انما نبهنا على ذلك لئلا يقف على شى ء منها واقف فيظن صحته، و يحمل عليه كلام المعصوم، و ليس الغرض تتبع العثرات. نعوذ بالله من ذلك.
و فى نسخه «و اخذ بالفصل» بالصاد المهمله، و هو بمعنى القضاء بين الحق و الباطل، اى صار فيهم بالقضاء الفاصل بين الحق و الباطل.
الفتن و الفتنه: الابتلاء و الامتحان. فتنه فتنا و فتونا من باب ضرب. و اصله من فتن الفضه اذا ادخلها النار ليعرف جيدها من رديها، و منه: «فبى تفتنون» اى تمتحنون، و يتعرف ايمانكم بنبوتى.
و تستعمل الفتنه و البلاء فيما يدفع اليه الانسان من شده و رخاء، قال تعالى: «و نبلوكم بالشر و الخير فتنه» لان بالشر يمتحن و يختبر صبره، و بالخير يمتحن و يتعرف شكره، ثم كثر استعمال الفتنه فى ايقاع الانسان فى بليه و شده، و منه قوله تعالى: «و ان كادوا ليفتنونك» اى يوقعونك فى ضراء و شده فى صرفهم اياك عما اوحى اليك. و عليه عباره الدعاء، اى لا توقعنى فى شده و مكروه بسبب ما اعطيتهم من متاع الدنيا، و هى الحسد لهم، و الغمط لحكمك المشار اليهما بقوله: «فاحسد خلقك و اغمط حكمك» و فى هذا المعنى بعينه قول اميرالمومنين صلوات الله و سلامه عليه فى خطبه له: «فاذا راى احدكم لاخيه غفيره فى اهل او مال او نفس فلا يكونن له فتنه».
الغفيره- بالغين المعجمه-: الزياده و الكثره، و منه: «الجم الغفير»، اى اذا راى
احدكم لاخيه زياده فى ولد او رزق او عمر او غير ذلك، فلا يكونن ذلك له فتنه، تفضى به الى الحسد.
و قوله: «لا تفتنهم بما منعتنى» اى لا توقعهم فى بليه بسبب ما حرمتنى من الدنيا، بان يرونى حقيرا مهانا، او يطغوا او يتكبروا فياثموا.
قوله: «فاحسد خلقك» «الفاء»: للسببيه، و الفعل بعدها منصوب بان مضمره لسبقها بالطلب. و حد الحسد ان تغتاظ مما رزقه غيرك، و تتمنى انه زال عنه، و صار اليك، و قد تقدم الكلام عليه مبسوطا.
قوله: «و اغمط حكمك».
غمطه يغمطه غمطا- من باب ضرب و سمع-: استحقره، و العافيه لم يشكرها، و النعمه بطرها و حقرها. اى و احتقر قضائك بما منحتنى، و لا اشكر حكمك فيما اعطيتنى، اذ كان دون ما اعطيتهم، اولا ارضى بحكمك و قضائك فيما اعطيتنى و منعتنى فاتسخطه و احتقره.
و فى الكتب القديمه يقول الله عز و جل: الحاسد عدو نعمتى، متسخط لفعلى، غير راض بقسمتى.
و نظم بعضهم هذا المعنى فقال:
الاقل لمن راح لى حاسدا
اتدرى على من اسات الادب؟
اسات على الله سبحانه
لانك لم ترض لى ما وهب
اصل الطيب: ما تستلذه الحواس و النفس. و طابت نفسه بالشى ء اذا قبلته و رضيته، و لم تكرهه. اى رض بقضائك نفسى و اجعلها قابله له، راضيه به.
و اتسع صدره للامر اذا سهل عليه تحمله و لم يشق عليه. و عكسه ضاق صدره
بالشى ء اذا شق عليه.
و مواقع الحكم: ما وقع به الحكم، و تعلق به، اى اجعل صدرى واسعا غير حرج و لا ضيق بما يوقعه حكمك من الامور التى يشق على النفس تحملها و الغرض سوال مقام الرضا الذى هو سرور النفس مهر القضاء.
و وثق به وثوقا وثقه: سكن اليه و اعتمد عليه، اى وهب لى السكون الى تقديرك، و الاعتماد عليه فى انه لا يكون الا عن حكمه بالغه.
و الاقرار: اثبات الشى ء، اما بالقلب، او باللسان، او بهما. لكن المراد به هنا ما كان بالقلب، سواء اضافه اللسان ام لا.
و «مع» اسم يقتضى الصحبه، اى مصاحبا لها. و الضمير عائد الى الثقه.
و المعنى: لاعترف بحصول الثقه لى بان قضاءك و حكمك فى اعيان الموجودات- على ما هى عليه من الاحوال الجاريه فى الازل الى الابد- لم يقع الا بالاختيار لما هو الخير و الاصلح.
و الخيره- بسكون الياء و فتحها- اسم من الاختيار، و هو اخذ ما يراه الخير، او فعله. تقول: خيرته بين الامرين فاختار احدهما. و استعمال الجرى فى وقوع القضاء، لسرعه مروره.
و «الباء» من قوله: «بالخيره» للملابسه، و الظرف فى محل نصب على الحال، اى: ملتبسا بالخيره.
و الاستثناء مفرغ، و التقدير: لم يجر فى حال من الاحوال الا حال التباسه بالخيره. و الغرض سوال اعداده عليه السلام للاطمئنان بقضاء الله تعالى و انه
لا يكون الا عن حكمه و مصلحه، فتطيب نفسه، و ينشرح صدره لجريانه و نفاذه فيه بما هو عليه، و لا يتسخط عدم ثروته، و فقده ما اوتى غيره من متاع الدنيا و حطامها. و الله اعلم.
الشكر: الاعتراف بالنعمه، و قيل هو الثناء على المحسن بذكر احسانه. و يتعدى تاره باللام فيقال: شكرت له، و اخرى بنفسه فيقال: شكرته.
و زويت عنه الشى ء: صرفته و قبضته عنه، و منه الحديث «اعطانى ربى اثنين، و زوى عنى واحدا».
و وفر الشى ء يفر وفورا- من باب وعد-: ثم و كمل. و قيل زاد و كثر.
و خوله الله مالا: اعطاه، و منه قوله تعالى: «و تركتم ما خولناكم»، اى اعطيناكم.
قال الراغب: و التخويل فى الاصل اعطاء الخول. و هو كالخدم و الحشم، وزنا و معنى.
و انما سال عليه السلام جعل شكره له على ما قبضه عنه اتم و اكمل من شكره له على ما اعطاه، لان قبض ما قبضه عنه هو عين صلاحه حتى لو لم يقبضه عنه لاضربه و افسده كما ورد فى الحديث «و ان من عبادى من لا يصلحه الا الفقر، فلو اغنيته لافسده ذلك»، و دفع الضرر اهم من جلب النفع. فيجب ان يكون الشكر على الاهم اكمل و اتم. و الله اعلم.
عصمه الله من المكروه يعصمه- من باب ضرب-: حفظه و وقاه.
و الظن: خلاف اليقين، و قد يستعمل فى معنى اليقين، كقوله تعالى: «الذين يظنون انهم ملاقوا ربهم»، و هو هنا محتمل للمعنيين، اى احفظنى من ان اتوهم بذى عدم خساسه، او اعتقد به ذلك.
و العدم- بفتحتين-: الفقر فضم عينه مع الاسكان لغه فيه، كالحزن و الحزن، و الرشد و الرشد. و اصله الفقدان، يقال: عدمته عدما- من باب تعب-: اى فقدته، ثم غلب على فقدان المال.
و الخساسه: الحقاره.
قال الفيومى: خس الشى ء يخس- من بابى ضرب و تعب- خساسه: حقر فهو خسيس.
و قيل: الخساسه حاله يكون عليها الخسيس و هو الدنى ء.
و الثروه: كثره المال، يقال: اثرى اثراء، اى استغنى، و الاسم الثراء بالفتح و المد.
و الفضل هنا: بمعنى الفضيله، و هو خلاف النقيصه. و لما كان اكثر الناس يحتقرون الفقير، و يستخسون بطباعهم، و يعظمون صاحب المال، و يفضلونه بغضا للفقر، و حبا للغنى، و كان ذلك من ذميم الاخلاق المهلكه، سال عليه السلام ربه ان يعصمه من ذلك.
و كان بعض الاكابر يقول: المفلس عند الناس اكذب من لمعان السراب، و من رويا الكظه، و من مرآه اللقوه، و من سحاب تموز، لا يسال عنه ان تخلف، و لا يسلم
عليه ان قدم، اذا غاب شتموه، و ان حضر طنزوا به، و ان غضب صفعوه، مصافحته تنقض الوضوء، و قراءته تقطع الصلاه، اثقل من الامانه، و ابغض من المبرم الملحف، و الناس لصاحب المال الزم من الشعاع للشمس، و من الذنب للمصر، و من الحكم للمقر، و هو عندهم ارفع من السماء، و اعذب من الماء، و احلى من الشهد، و ازكى من الورد، خطاه صواب، و سيئته حسنه، و قوله مقبول، و حديثه معسول، يغشى مجلسه، و لا تمل صحبته. و كان ينشد لعروه الصعاليك:
ذرينى للغنى اسعى فانى
رايت الناس شرهم الفقير
و اهونهم و احقرهم عليهم
و ان امسى له حسب و خير
و يكرهه الندى و تزدريه
حليلته و ينهره الصغير
و يلقى ذو الغنى و له جلال
يكاد فواد صاحبه يطير
قليل ذنبه و الذنب جم
و لكن الغنى رب غفور
و النثر و النظم فى هذا المعنى كثير.
و فى الحديث عن ابى عبدالله عليه السلام: من استذل مومنا، او احتقره لقله ذات يده و لفقره شهره الله يوم القيامه على رووس الخلائق.
و عن اميرالمومنين صلوات الله و سلامه عليه: من اتى غنيا فتواضع له لغناه ذهب ثلثا دينه.
و الاخبار فى ذلك اكثر من ان تحصى.
قوله عليه السلام: «فان الشريف من شرفته طاعتك» «الفاء»: للسببيه.
و الشرف: علو للمنزله. شرف كعظم فهو شريف. و قيل: الشرف كمال يتعلق
بالذات و الحقيقه، و لهذا يقال: فلان شريف الذات.
و الطاعه: اسم من اطاعه، اى انقاد له، لكن كثر استعمال الطاعه فى امتثال الامر، و لذلك عرفوها بموافقه الامر.
و العزه: الرفعه و الامتناع. و رجل عزيز: منيع لا يغلب و لا يقهر.
و قد يراد بالعزيز: الكريم، من عز على يعز عزا و عزه و عزازه: اى كرم، فهو عزيز. و اعززته: اكرمته و عظمته فهو عزيز ايضا. و هذا المعنى انسب بعباره الدعاء من الاول.
و العباده فى اصل اللغه الخضوع و الانقياد، و فى الاصطلاح فعل المكلف على خلاف نفسه تعظيما لربه. و قيل: هو فعل اختيارى مباين للشهوات البدنيه، يصدر عن نيه يراد بها التقرب الى الله تعالى، طاعه للشريعه.
و قال صاحب الكشف: العباده قد تطلق على اعمال الجوارح بقصد القربه، و منه قوله صلى الله عليه و آله: لفقيه واحد اشد على الشيطان من الف عابد. و هى على هذا غير الايمان بمعنى التصديق و النيه و الاخلاص، بل مشروطه به.
و قد تطلق على التحقق بالعبديه بارتسام ما امر السيد جل و علا، او نهى، و على هذا تتناول الاعمال و العقائد القلبيه ايضا، فدخل فيها الايمان و هو عباده فى نفسه، و شرط لسائر العبادات. انتهى.
و قصر اسم ان على خبرها فى الفقرتين للمبالغه فى شرف من شرفته طاعه الله تعالى، و عزه من اعزته عبادته، كانه لا شريف و لا عزيز غيره، على ما قالوه فى نحو: «الامير زيد، و الشجاع عمرو» من ان اللام ان حمل فى المقام الخطابى على الاستغراق كان بمنزله كل امير زيد، و كل شجاع عمرو، و ان حمل على الجنس افاد ان زيدا و جنس الامير، و عمرا و جنس الشجاع متحدان فى الخارج. و كيف كان فالقصر الا دعائى حاصل.
«الفاء» فصيحه لصلاحيه تقدير اذا الشرطيه قبلها، اى اذا كان الامر هكذا فصل على محمد و آله.
و متعنا: اى اعطنا ثروه لا تنفد ننتفع بها. يقال: متعته بكذا تمتيعا، و امتعته به امتاعا: اعطيته اياه لينتفع به. و منه المتاع، و هو كل ما ينتفع به من طعام و اثاث.
و نفذ الشى ء ينفذ من باب تعب نفاذا: فنى و انقطع.
و الايد: القوه الشديده. و ايدته تاييدا: قويته، و منه قوله تعالى: «ايدتك بروح القدس».
و الفقد: عدم الشى ء بعد وجوده، فهو اخص من العدم، لان العدم يقال فيه و فيما لا يوجد.
و سرحت الابل سرحا و سروحا- من باب نفع-: رعت بنفسها، و سرحتها سرحا ايضا: ارسلتها للرعى، و هو من الافعال اللازمه و المتعديه. و سرحتها- بالتثقيل- مبالغه و تكثيرا. و اما اسرحتها بالهمز فلم اقف عليه فى شى ء من كتب اللغه، فما وقع فى نسخه ابن ادريس من ضبط قوله عليه السلام: «و اسرحنا» بقطع الالف ينبغى تحريره.
و المراد بالسرح هنا التخليه، و عدم المنع كما تسرح الماشيه فى المرعى، و هو استعاره تبعيه او مكنيه.
و الملك: السلطنه و العز و العظمه.
و الابد: الدهر الطويل الذى ليس بمحدود. و قيل: هو استمرار الوجود فى ازمنه
مقدره غير متناهيه فى جانب المستقبل.
و اضافه الملك الى الابد، اما بمعنى «فى» كمكر الليل، و اما بمعنى لام الاختصاص كدار المقامه، و هو الصواب.
قال الرضى: و لا يلزم فى الاضافه بمعنى اللام ان يجوز التصريح بها بل يكفى افاده الاختصاص الذى هو مدلول اللام، فقولك طور سينا و يوم الاحد، بمعنى اللام، و لا يصح اظهار اللام فى مثله، فالاولى ان تقول نحو: مكر الليل و ضرب اليوم بمعنى اللام.
و فى الفقره تلميح الى قوله تعالى: «و اذا رايت ثم رايت نعيما و ملكا كبيرا».
قال العلامه الطبرسى: اى اذا رميت ببصرك، ثم يعنى الجنه، رايت نعيما خطيرا، و ملكا كبيرا لا يزول و لا يفنى، عن الصادق عليه السلام و قيل: هو الملك الدائم الابدى فى نفاذ الامر و حصول الامانى. انتهى ملخصا.
و ما وقع لبعض المترجمين من ان المراد بملك الابد الجنه بقرينه المقام. لان النار ايضا ابديه، لكن المسلمون لا يابدون فيها، لا يخفى سخافته.
قوله عليه السلام: «انك الواحد الاحد» الى آخره تعليل للدعاء، و مزيد استدعاء للاجابه و تاكيد الجمله للاذعان بمضمونها.
و الواحد: اسم فاعل من وحد يحد وحدا من باب وعد. اى انفرد، فالواحد بمعنى المنفرد.
و الاحد: اصله وحد، صفه مشبهه منه كحسن، ابدلت الواو همزه شذوذا.
قال بعض المحققين: الواحد: الفرد الذى لم يزل وحده، و لم يكن معه آخر،
و الاحد: الفرد الذى لا يتجزى، و لا يقبل الانقسام فالواحد: هو المنفرد بالذات فى عدم المثل، و الاحد: هو المتفرد بالمعنى، و قيل: المراد بالواحد: نفى التركيب و الاجزاء الخارجيه و الذهنيه عنه تعالى، و بالاحد: نفى الشريك عنه فى ذاته و صفاته و قيل: الواحديه: لنفى المشاركه فى الصفات، و الاحديه: لتفرد الذات، و لما لم ينفك عن شانه تعالى احدهما عن الاخر.
قيل: الواحد: الاحد فى حكم اسم واحد، و قد يفرق بينهما فى الاستعمال من وجوه:
احدها: ان الواحد: يستعمل وصفا مطلقا، و الاحد: يختص بوصف الله تعالى نحو: « قل هو الله احد».
الثانى: ان الواحد: اعم موردا، لانه يطلق على من يعقل و غيره، و الاحد لا يطلق الا على من يعقل.
الثالث: ان الواحد يجوز ان يجعل له ثان، لانه لا يستوعب جنسه، بخلاف الاحد، الا ترى انك لو قلت: فلان لا يقاومه واحد جاز ان يقاومه اثنان فاكثر، و لو قلت: لا يقاومه احد لم يجز ان يقاومه اثنان و لا اكثر فهو ابلغ.
الرابع: ان الواحد يدخل الحساب و الضرب و العدد و القسمه، و الاحد يمتنع دخوله فى ذلك.
الخامس: ان الواحد يونث بالتاء، و الاحد يستوى فيه المذكر و المونث، قال الله تعالى: «لستن كاحد من النساء»، و لا يجوز كواحد من النساء بل كواحده.
السادس: ان الواحد لا يصلح للافراد و الجمع، بخلاف الاحد، فانه يصلح لهما، و لهذا وصف بالجمع فى قوله تعالى: «من احد عنه حاجزين».
السابع: ان الواحد لاجمع له من لفظه، فلا يقال: واحدون، و الاحد له جمع من لفظه، و هو احدون و آحاد.
و الصمد: السيد المصمود اليه فى الحوائج، اى المقصود اليه من صمد اليه، اى قصد، فهو فعل بمعنى مفعول. و قد اسلفنا الكلام عليه فى الروضه الثانيه و العشرين مبسوطا فاغنى عن الاعاده.
قوله عليه السلام «لم تلد» اى لم يصدر عنه ولد، لانه لا يجانسه شى ء يمكن ان يكون له من جنسه صاحبه فيتوالد، كما نطق به قوله تعالى: «انى يكون له ولد و لم تكن له صاحبه»، و لانه لا يفتقر الى ما يعينه و يخلفه، لاستحاله الحاجه و الفناء عليه سبحانه.
و فيه تنصيص على ابطال زعم المفترين فى حق الملائكه و المسيح و عزير، و لذلك ورد النفى على صيغه الماضى.
و لم تولد: اى لم يصدر عن شى ء لاستحاله نسبه العدم اليه سابقا و لاحقا، و عدم افتقاره الى شى ء.
و لم يكن له كفوا احد، اى لم يكن احد يكافئك و يماثلك من صاحبه و غيرها.
و الكفو- بضم الكاف و سكون الفاء، و بضمتين-: النظير و المماثل.
و المقصود انه تعالى لم يماثله احد فى ذاته و صفاته الذاتيه و الفعليه، و هو تنزيه مطلق له عن المشابهه بالخلق بنحو من الانحاء كما قال: «و ليس كمثله شى ء». و الغرض نفى امكان وجود الكفو له، لا بيان عدمه مع امكانه.
و قال بعض المفسرين: الايات الثلاث اشاره الى نفى من يماثله، و هو اما لاحق، و ابطله بقوله: «لم يلد»، و اما سابق و ابطله بقوله: «و لم يولد» و اما مقارن فى الوجود، و زيفه بقوله: «و لم يكن له كفوا احد». و يجوز ان يكون الاولان اشاره
الى نفى من يماثله بطريق التولد او التوالد، و الثالث تعميما بعد التخصيص. و يحتمل ان يراد بالاخيره نفى الصاحبه، لان المصاهره تستدعى الكفاءه شرعا و عقلا، فيكون ردا على من حكى الله عنهم فى قوله: «و جعلوا بينه و بين الجنه نسبا» تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
و الاكثر على ان احد اسم كان، و كفوا خبرها، و «له» صله كفوا، فهو ظرف لغو، و اورد ان تقديم الظرف اذا كان لغوا غير مستحسن كما نص عليه سيبويه فى كتابه.
و اجيب: بانه انما قدم اللغو فيه لانه معقد الفائده، اذ ليس الغرض نفى الكفو مطلقا، بل نفى الكفو له تعالى، فقدم اهتماما بما هو المقصود معنى، و رعايه للفواصل لفظا.
و قال مكى فى اعرابه: و قيل: «له» هو الخبر، و هو قياس قول سيبويه، لانه يقبح عنده الغاء الظرف اذا تقدم. و خالفه المبرد، و اجازه على غير قبح، و استشهد بالايه، و لا شاهد للمبرد فى الايه، لانه يمكن ان يكون «كفوا» حالا من احد مقدما عليه، لان نعت النكره اذا تقدم عليها نصب على الحال. انتهى.
و جوز ابوالبقاء: ان يكون «له» حال من كفوا، و ان يكون متعلقا ب«يكن»، و الخبر هو كفوا.
و اعلم انه عليه السلام انما آثر الخطاب فى العائد الى الموصول على الغيبه، فقال: «لم تلد، و لم تولد، و لم يكن لك كفوا احد»- مع ان الاكثر فى الموصول او موصوفه اذا كان خبرا ان يكون العائد اليه غائبا نحو: انت الرجل الذى قال كذا- حملا على المعنى، و تلذذا بالخطاب، ولان الاقرار و الاذعان و الشهاده بوحدانيته و احديته
و صمديته و تنزيهه عن المماثل مطلقا فى الحضور اتم منه فى الغيبه، فاجرى جمله الكلام على وتيره واحده فى الخطاب، على ان روايه ابن ادريس على الغيبه . و الله اعلم.
هذا آخر الروضه الخامسه و الثلاثين من رياض السالكين، وفق الله عز شانه لاتمامها راد الضحى من يوم الخميس، لثلاث عشره خلون من شوال عام اربع و مائه و الف، بدار السرور برهانپور على يد مولفه و لله الحمد.