عند رويه الهلال
«1» أَيُّهَا الْخَلْقُ الْمُطِيعُ ، الدَّائِبُ السَّرِيعُ ، الْمُتَرَدِّدُ فِي مَنَازِلِ التَّقْدِيرِ ، الْمُتَصَرِّفُ فِي فَلَكِ التَّدْبِيرِ . «2» آمَنْتُ بِمَنْ نَوَّرَ بِكَ الظُّلَمَ ، و أَوْضَحَ بِكَ الْبُهَمَ ، و جَعَلَكَ آيَةً من آيَاتِ مُلْكِهِ ، و عَلَامَةً من عَلَامَاتِ سُلْطَانِهِ ، و امْتَهَنَكَ بِالزِّيَادَةِ و النُّقْصَانِ ، و الطُّلُوعِ و الْأُفُولِ ، و الْإِنَارَةِ و الْكُسُوفِ ، فِي كُلِّ ذَلِكَ أَنْتَ لَهُ مُطِيعٌ ، و إِلَى إِرَادَتِهِ سَرِيعٌ «3» سُبْحَانَهُ ما أَعْجَبَ ما دَبَّرَ فِي أَمْرِكَ و أَلْطَفَ ما صَنَعَ فِي شَأْنِكَ جَعَلَكَ مِفْتَاحَ شَهْرٍ حَادِثٍ لِأَمْرٍ حَادِثٍ «4» فَأَسْأَلُ اللَّهَ رَبِّي و رَبَّكَ ، و خَالِقِي و خَالِقَكَ ، و مُقَدِّرِي و مُقَدِّرَكَ ، و مُصَوِّرِي و مُصَوِّرَكَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ و آلِهِ ، و أَنْ يَجْعَلَكَ هِلَالَ بَرَكَةٍ لا تَمْحَقُهَا الْأَيَّامُ ، و طَهَارَةٍ لا تُدَنِّسُهَا الآْثَامُ «5» هِلَالَ أَمْنٍ من الآْفَاتِ ، و سَلَامَةٍ من السَّيِّئَاتِ ، هِلَالَ سَعْدٍ لا نَحْسَ فِيهِ ، و يُمْنٍ لا نَكَدَ مَعَهُ ، و يُسْرٍ لا يُمَازِجُهُ عُسْرٌ ، و خَيْرٍ لا يَشُوبُهُ شر ، هِلَالَ أَمْنٍ و إِيمَانٍ و نِعْمَةٍ و إِحْسَانٍ و سَلَامَةٍ و إِسْلَامٍ . «6» اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ و آلِهِ ، و اجْعَلْنَا من أَرْضَى من طَلَعَ عَلَيْهِ ، و أَزْكَى من نَظَرَ إِلَيْهِ ، و أَسْعَدَ من تَعَبَّدَ لَكَ فِيهِ ، و وَفِّقْنَا فِيهِ لِلتَّوْبَةِ ، و اعْصِمْنَا فِيهِ من الْحَوْبَةِ ، و احْفَظْنَا فِيهِ من مُبَاشَرَةِ مَعْصِيَتِكَ «7» و أَوْزِعْنَا فِيهِ شُكْرَ نِعْمَتِكَ ، و أَلْبِسْنَا فِيهِ جُنَنَ الْعَافِيَةِ ، و أَتْمِمْ عَلَيْنَا بِاسْتِكْمَالِ طَاعَتِكَ فِيهِ الْمِنَّةَ ، إِنَّكَ الْمَنَّانُ الْحَمِيدُ ، و صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ
(ايها الخلق المطيع الدائب السريع المتردد فى منازل...) الخلق: المخلوق كاللفظ و الاكل بمعنى الملفوظ و الماكول، و الدائب: من جد فى عمله و واظب عليه، و القمر مطيع لله تعالى بمعنى انه يتحرك فى فلكه و مداره تبعا لقوانين اودعها سبحانه فى الطبيعه، و لو حاد عنها لاختل نظامه او نظام باسره... هذا الى انه تعالى خالق الاشياء كلها، اوجد بعضها من لا شى ء و بعضها الاخر من الشى ء الذى اوجده من لا شى ء، اما المنازل فهى اشاره الى ما قاله علماء الفلك: انها 28، ينزل القمر كل ليله فى واحد منها، و يستتر فى ليلتين اذا كان الشهر 30 يوما، و فى ليله واحده اذا كان 29 يوما، و المنازل القمريه تحدد ايام الشهر القمرى، اما الشمس فتحدد ساعات النهار.
و بالمناسبه نشير ان الفيلسوف اليونانى «انكساجوراس)» ادرك بالفراسه و اللفته الواعيه قبل الميلاد بخمسه قرون: ان القمر مجرد جسم يشبه الارض، و فى القرن الثالث قبل الميلاد قال: «بلو تارك»: فى القمر اوديه و تلال تماما كالارض. و هذا ما ثبت بالحس بعد صعود الانسان على القمر.
(آمنت بمن نور بك الظلم) قيل: ان نور القمر مستمد من ضياء الشمس. و ما نحن بتاويل الكواكب بعالمين (و اوضح بك البهم): المجهولات و المشكلات، و العطف هنا للتكرار و التفسير (و جعلك آيه...) و فى كل شى ء له آيه تدل على انه واحد (و امتهنك بالزياده و النقصان...) امتهنك: استخدمك و سيرك، و الافول: الغياب، و القمر لا ينقص و يزيد، و لا يغيب و يووب، و انما جاء التعبير بهذه الالفاظ باعتبار رويه البصر لا البصيره و الظاهر دون الواقع.
(ما اعجب ما دبر من امرك...) كل ما فى الكون من الذره الصغيره الى المجره الكبيره، عجيب فى صنعه و تدبيره، و محال ان يحدث صدفه من غير علم و قصد و حكمه، و من قال بالاتفاق و الصدفه تاه فى الظلمات، و انتقل من شك الى شك، و من هنا قال فولتير: «و جود الله فرض ضرورى، لان الفكره المضاده حماقات».
(جعلك مفتاح شهر حادث لامر حادث) كل شهر و كل يوم و كل ساعه، و كل شى ء فى تغير دائم- سوى الخالق- شئنا ام ابينا، هكذا قال العلم الحديث، و من قبله بقرون قال القرآن الكريم: «كل يوم هو فى شان- 29 الرحمن» و ضمير «هو» يعود الى اليوم، و المراد به هنا مطلق الوقت و ما يقع فيه. و فى اصول الكافى عن الامام الصادق (ع): «العلم لاينتهى لما يحدث بالليل و النهار يوما بيوم و ساعه بساعه. و تقدم فى الدعاء 6.
(خالقى و خالقك، و مقدرى و مقدرك، و مصورى و مصورك) التقدير يسبق الخلق و التصويو، لانه تخطيط و تصميم قال سبحانه: «و خلق كل شى ء فقدره تقديرا- 2 الفرقان» اى عن قصد و تخطيط و علم و اتقان لحكمه بالغه: «ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك- 191 آل عمران» و الخلق هنا يسبق التصوير قال عز من قائل: «و لقد خلقناكم ثم صورناكم- 11 الاعراف» و «ثم» للترتيب، اى خلق آدم من تراب و اولاده من نطفه، ثم صورهم و مثلهم على هيئه الانسان الكامل باعضائه و شكله، فتبارك الله احسن الخالقين.
(و ان يجعلك هلال بركه لا تمحهقا الايام) محق الشى ء: ابطله و محاه، و البركه: النماء و الزياده... و خير الاوقات على الاطلاق ما تمحى فيه السيئات، و تثبت الحسنات، و كل شى ء ما عدا ذلك فالى زوال، و الزائل ليس بشى ء، و ان كان ملك سليمان (و طهاره لا تدنسها الاثام) و لا اثم كاثاره الحروب و الفتن و الفساد فى الارض بالاعتداء على حقوق الناس.
و الكلمه الجامعه لخصال الخير بالكامل قوله: (هلال امن و ايمان) حيث لا طيب للعيش و لا خير فى الحياه بلا امن و امان، و هل للصحه و المال و السلطان من طعم مع الخوف و الهلع؟ بل المخف احسن حالا من المثقل الف مره فى يوم الشده و المحنه... اما الايمان فامان من سوء العذاب فى الاخره، و حاجز عن تقحم الفساد و اذى العباد فى الحياه الدنيا، و ما تقدمت الانسانيه خطوه الى الامام الا بالجهاد و الايمان، و ما تاخرت و تخلفت الا بالخوف و ضعف العقيده.
(و اجعلنى من ارضى من طلع عليه) وفقنى فيه الى العمل بطاعتك و مرضاتك (و ازكى من نظر اليه...) و فى دعاء آخر: «اللهم ان الناس اذا نظروا الهلال نظر بعضهم الى وجوه بعض، و يتبرك بعضهم ببعض، و انى نظرت الى اسمائك- اى سبحت و هللت و كبرت- و اسماء نبيك و وليك و اوليائك- اى صليت عليهم و سلمت- و الى كتابك» قرات بعض آياته (و اعصمنا فيه من الحوبه): الخطيئه
(و اوزعنا) الهمنا (جنن): جمع جنه بضم الجيم بمعنى الستر و الوقايه (المنه): النعمه و الاحسان، و المنان: المنعم و المحسن.
و بعد، فان الهدف الاول من دعاء الهلال ان لاتمضى علينا ساعه من ساعاته الا بخير، و ان نغتنم الفرصه للتفكير عما اجترحنا من سيئات، و لا نزداد فيه خسارا و اصرارا على الموبقات.