فارسی
چهارشنبه 23 آبان 1403 - الاربعاء 10 جمادى الاول 1446
قرآن کریم مفاتیح الجنان نهج البلاغه صحیفه سجادیه
0
نفر 0

ملامح من الصفات الفنیة للصحیفة السجادیة

ملامح ‌من‌ الصفات الفنية للصحيفة السجادية


الامر (1)
لسنا هنا في معرض توثيق نصوص (الصحيفة)، فهذه مسألة قائمة في ذاتها، اهتم بها الأستاذ المحقق (علي أنصاريان) اهتماما واسعا. يکفينا هنا أن نذکر بما ‌لا‌ يجهله أحد:
شرف النسب: الذي يصل الامام بدوحة النبوة، فهو کما نعلم ابن حفيد النبي (ص)، الذي استشهد في کربلاء ‌و‌ ادخره الله، بعد مأساة أبيه الامام الحسين ‌و‌ أخيه علي الأکبر، لما ندب له ‌من‌ شرح حقائق الرسالة التي بعث بها جده (ص) ‌و‌ لسنا في حاجة الي أن نطيل الکلام في الأثر الذي خلفته في نفسه مأساة أبيه ‌و‌ أخيه ‌و‌ أهل بيته، ‌و‌ قد شهد فصولها الدامية بعينيه، ففي دعواته ‌و‌ ابتهالاته التي تجمعها (الصحيفة) احساس عميق بحرکة الموت، ‌و‌ ‌ما‌ يقتضيه لقاء الله القريب ‌من‌ صدق التقوي، ‌و‌ تأدية الحقوق، ‌و‌ نزاهة الجوارح، ‌و‌ امتلاء النفس برهبة هذه الساعة ‌و‌ التهيؤ لها، حتي ليندر أن تقرأ فيها دعاء ‌لا‌ يرد فيه ذکر الموت، علي نحو يتعذر معه الفرح الصافي بالحياة.
و في (الصحيفة) في مجموع الدعوات ‌و‌ الابتهالات ‌و‌ المناجات، حزن عميق سحيق القرار، ‌هو‌ حزن الممتازين ‌من‌ أهل الله، ‌و‌ حزن الأئمة ‌من‌ ‌آل‌ البيت خاصة، لما عانوا ‌من‌ عنت ‌و‌ ارهاق، «دعوتک يارب مسکينا، مستکينا، مشفقا، خائفا، وجلا، فقيرا، مضطرا اليک. أشکو اليک ‌يا‌ الهي ضعف نفسي... ‌و‌ کثرة همومي، ‌و‌ وسوسة نفسي... وضعت عندک سري فلا أدعو سواک، ‌و‌ ‌لا‌ أرجو غيرک. لبيک لبيک، تسمع ‌من‌ شکا اليک، ‌و‌ تلقي ‌من‌ توکل عليک، ‌و‌ تخلص ‌من‌ اعتصم بک، ‌و‌ تفرج عمن ‌لا‌ ذبک» [1] .
فمن مجموع هذا التکوين، في هذه الظروف التاريخية الصعبة، خلصت نفس الامام بسماتها ‌و‌ صفاتها، ‌و‌ خوفها ‌و‌ رجائها، ‌و‌ خشوعها ‌و‌ تبتلها، ‌و‌ وقوفها خارج أسوار الدنيا الفانية، علي مشارف عالم الغيب الذي تلوح أنواره لأصحاب النفوس الکبيرة التي تطول ‌ما‌ يطوله حملة الرسالات الروحية. کان «اذا قام الي الصلاة، أخذته رعدة. فقيل له، فقال: تدرون بين يدي ‌من‌ أقوم ‌و‌ ‌من‌ أناجي؟» [2] .
فهذه هي النفس التي ناجت ‌و‌ ابتهلت ‌و‌ سمت في عبادتها حتي سموا صاحبها (زين العابدين)، ‌و‌ خلفت ‌من‌ مجموع مناجاتها ‌و‌ دعائها ‌و‌ ابتهالها، (الصحيفة السجادية) التي نقف، في هذه الکلمة الصغيرة، علي ملامح ‌من‌ صفاتها الفنية.

الامر (2)
نشأ الامام اذن في مدرسة النبوة التي نشأ فيها الأئمة ‌من‌ ‌آل‌ البيت ‌و‌ أبناؤهم، ‌و‌ ذووهم، في المرحلة التي بدأ النثر العربي فيها يستقر علي ‌ما‌ خلفه القرآن الکريم ‌من‌ أساليب الصياغة، بموسيقاها الساطعة، ‌و‌ بالصورة ‌و‌ أدوارتها، ‌و‌ الخطاب ‌و‌ تنوع الأداء، فيه.
ثم ‌ان‌ الامام امتاز بها تمتاز ‌به‌ النفوس المختارة ‌من‌ خصوبة الفکر ‌و‌ قوة النفوذ في کل ‌ما‌ تقع عليه العين، أو يمتلکه الحس، أو يدرکه الحدس، ‌و‌ ‌من‌ حرارة الروح وسعة الاحاطة بالثقافة الاسلامية التي تلقاها في الوسط النبوي الذي نشأ فيه، ‌و‌ علي المثال الرفيع المتناقل عن ‌آل‌ البيت، في عصور الاسلام الأولي. ‌و‌ يکشف امتلاکه أدوات التعبير عن ثروة لغوية واسعة استغلت، في أدعيته ‌و‌ نجواه ‌و‌ ابتهالاته، أحسن استغلال، بما يتناسب مع طبيعة الدعاء ‌و‌ حرارة النجوي.
و يعجب الانسان، ‌و‌ ‌هو‌ يعيد النظر في الصحيفة، (و ‌هو‌ العجب الذي يدرکه حين يستمع الي دعوات ‌آل‌ البيت علي الاطلاق): ‌من‌ أين تتوجه نفوسه في تشقيق المعاني ‌و‌ ألوان الصياغات ‌و‌ المشاعر، ‌و‌ ‌هم‌ يجولون في دائرة واحدة هي دائرة التبتل ‌و‌ الابتهال ‌و‌ الدعاء، کأنهم جبلوا، جراء عمق الالتزام بمعاني الرسالة التي حملوها، ‌من‌ تراب خاص، ‌و‌ سقوا ‌من‌ ماء خاص، ‌من‌ رقة الحزن، ‌و‌ عمق الاحساس بجلال الألوهة ‌و‌ التذلل لها، ‌و‌ انخلاع القلب لهيبتها: «هأنذا ‌يا‌ رب مطروح بين يديک، أنا الذي أوقرت الخطايا ظهره، ‌و‌ أنا الذي أفنت الذنوب عمره...هل أنت، ‌يا‌ الهي، راحم ‌من‌ دعاک فأبلغ في الدعاء؟ أم أنت غافر لمن بکاک فأسرع في البکاء؟ أم أنت متجاوز عمن عفر لک وجهه تذللا؟ أم أنت مغن ‌من‌ شکا اليک فقره توکلا؟.... الهي ‌لا‌ تعرض عني ‌و‌ قد أقبلت اليک، ‌و‌ ‌لا‌ تحرمني ‌و‌ قد رغبت اليک، ‌و‌ ‌لا‌ تجبهني بالرد ‌و‌ قد انتصبت بين يديک... فاعف عني. قد تري ‌يا‌ الهي فيض دمعي ‌من‌ خيفتک، ‌و‌ وجيب قلبي ‌من‌ خشيتک، ‌و‌ انتفاض جوارحي ‌من‌ هيبتک...» [3] .«يا الهي! لو بکيت اليک حتي تسقط أشفار عيني، ‌و‌ انتحبت حتي ينقطع صوتي، ‌و‌ قمت لک حتي تنتشر قدماي، ‌و‌ رکعت لک حتي ينخلع صلبي، ‌و‌ سجدت لک حت تنفقأ حدقتاي، ‌و‌ أکلت تراب الأرض طول عمري، ‌و‌ شربت ماء الرماد آخر دهري، ‌و‌ ذکرتک في خلال ذلک حتي يکل لساني، ثم لم أرفع طرفي الي آفاق السماء استحياء منک، ‌ما‌ استوجبت بذلک محو سيئة واحدة ‌من‌ سيئاتي...» [4] .
فمن أين يجي ء أثر هذا الدعاء الواسع العميق في النفس؟ ‌من‌ عمق الصدق فيه؟ ‌من‌ غني الوجدان الديني؟ ‌من‌ تشقيق المواقف ‌و‌ ألوان الصور بعضها ‌من‌ بعض؟ ‌من‌ حنان النفس ورقتها؟ ‌من‌ قدرة التمثل لکل موقف ‌و‌ لحاجة في التعبير عنه، ‌من‌ شفافية اللغة وحسية لصورة وتنوعها؟ ‌من‌ انتصاب جبروت الله ‌و‌ هيبته في ظلها؟ أم تراه يجي ء ‌من‌ ذوب هذه العناصر کلها ‌و‌ استجابة اللغة لها، في أدائها، استجابة تبدو قريبة ‌من‌ الفطرة النبوية التي فطر عليها ‌آل‌ البيت ‌و‌ ذووه، ‌و‌ شهروا بها؟
علي أن أوضح عناصر التأثير، تجي ء ‌من‌ خصوبة النفس التي تبدو في امتداد نفس التعبير في الدائرة الواحدة، ‌و‌ القدرة علي استخراج أدق الأحاسيس فيها، ‌و‌ ‌من‌ حرارة الروح، ‌و‌ غني الفکر بمعاني الرسالة، ثم في روعة الأداء اللغوي الواضح في غير تکلف ‌و‌ ‌لا‌ اصطناع، ‌و‌ التطلع الدائم فيه الي المثال اللغوي الرفيع الذي أرساه القرآن الکريم، ‌و‌ ‌من‌ تجسيد المعاني ‌و‌ الأحاسيس تجسيدا يجعل الحس يمتلي ء بها.


الامر (3)
نقف أولا عند جانب اللغة، ‌و‌ نعيد النظر فيه، لخطر أثره في (الصحيفة). اذ تکاد الثروة اللغوية تبدو في غاية اتساعها. ‌و‌ الاحاطة بمفرداتها في الموضوع المطروح تقرب ‌من‌ الکمال. يقول في دعاء الاستسقاء: «اللهم اسقنا الغيث، ‌و‌ انشر علينا رحمتک بغيثک المغدق ‌من‌ السحاب، المنساق لنبات أرضک، المونق في جميع الآفاق.... تحيي ‌به‌ ‌ما‌ قد مات، ‌و‌ ترد ‌به‌ ‌ما‌ قد فات، ‌و‌ تخرج ‌به‌ ‌ما‌ ‌هو‌ آت، ‌و‌ توسع ‌به‌ في الأقوات، سحابا متراکما هنيئا مريئا طبقا مجللا [5]  غير ملث [6]  ‌و‌ دقه [7]  ‌و‌ ‌لا‌ خلب برقه.... اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريعا ممرعا [8]  عريضا واسعا غزيرا ترد ‌به‌ النهيض [9]  ‌و‌ تجبر ‌به‌ المهيض» [10] .
فمن هذه الناحية، أعني ‌ما‌ يتصل بمفردات اللغة وفقهها، ‌و‌ اتساع ثروته اللغوية في الاجمال، يمکن (الصحيفة) أن تکون صحيفة يتعلم فيها الانسان استعمال هذه المفردات استعمالا صحيفا في أماکنها، مع ‌ما‌ يماثلها أو يناقضها، فمن هنا تعد (الصحيفة) أيضا کتابا بالغ الامتياز في تعليم اللغة بأسلوب حي. يقول: «اللهم ‌و‌ أبدلني ‌من‌ بغضة أهل الشنآن المحبة، ‌و‌ ‌من‌ حسد أهل البغي المودة، ‌و‌ ‌من‌ ظنة أهل الصلاح الثقة، ‌و‌ ‌من‌ عداوة الأذنين الولاية، ‌و‌ ‌من‌ عقوق ذوي الأرحام المبرة، ‌و‌ ‌من‌ خذلان الأقربين النصرة ‌و‌ ‌من‌ حب المدارين تصحيح المقة، ‌و‌ ‌من‌ ‌رد‌ الملابسين کرم العشرة، ‌و‌ ‌من‌ مرارة خوف الظالمين حلاوة الأمنة [11] ». ‌و‌ يقول في دفع کيد الأعداء: «و کم ‌من‌ باغ بغاني بمکائده... ‌و‌ أضبأ [12]  الي اضباء السبع لطريدته... ‌و‌ ‌هو‌ يظهرلي بشاشة الملق، ‌و‌ ينتظرني علي شدة الحنق» [13] .
نعم قد نلحظ غزارة المترادف في (الصحيفة)، فسببه استيفاء التعبير عن الحال الانفعالية، يردفه، دون شک، اتساع الثروة اللغوي: «اللهم... ‌و‌ ‌من‌ أرادني بسوء فاصرفه عني، ‌و‌ ادحر عني مکره، وادرأ عني شره، ورد کيده في نحره، ‌و‌ اجعل بين يديه سدا حتي تعمي عني بصره، ‌و‌ تصم عن ذکري سمعه، ‌و‌ تقفل دون اخطاري قلبه، ‌و‌ تخرس عني لسانه، ‌و‌ تقمع رأسه، ‌و‌ تذل عزه، ‌و‌ تکسر جبروته، ‌و‌ تذل رقبته، ‌و‌ تفسخ کبره، ‌و‌ تؤمنني ‌من‌ جميع ضره ‌و‌ شره ‌و‌ غمزه ‌و‌ لمزه ‌و‌ حسده ‌و‌ عداوته ‌و‌ حبائله ‌و‌ مصائده ‌و‌ رجله ‌و‌ خيله...» [14] .
و قد تتوارد المترادفات بصورة تلقائية في بعض المواقف، مثل موقف التذلل للخالق، کأنه ‌لا‌ يجد ‌ما‌ ينفذ ‌به‌ الي ‌ما‌ يحس ‌من‌ هوان النفس امام الخالق الا تکرار المترادف: «فاني عبدک المسکين المستکين الضعيف الضرير الحقير المهين الفقير الخائف المستجير» [15] .
و مثل هذا البناء المتساوق في لغة الدعاء يکشف عما کان الامام يعاني ‌من‌ العداوة ‌و‌ الکيد، في المرحلة السياسة الصعبة التي کان يعديها. فقد بلغ ‌به‌ الضيق مما يعاني ‌ما‌ جعله يستنفد هذا القدر ‌من‌ المخزون المترادف.
و ‌من‌ هنا تکون جمل الدعاء ‌و‌ الابتهال في معظم (الصحيفة)، انشائية لأنها - کما قلنا - تعبر عن أحوال انفعالية حارة، شديدة الحرارة، حتي ‌ان‌ الجمل التقريرية فيها ‌لا‌ تصفو للتقرير وحده. ‌و‌ ‌من‌ هنا يکثر النداء بأداته العارية أو النداء المدغوم، ‌و‌ الالتماس، ‌و‌ الرجاء، في الأفعال، حتي يعم صفحات (الصحيفة) کلها تقريبا، علي نحو ‌ما‌ يقول في احدي صحائفها، علي غير اختيار مني: «اللهم توجني بالکفاية: ‌و‌ سمني حسن الولاية، وهب لي صدق الهداية، ‌و‌ ‌لا‌ تفتني بالسعة، ‌و‌ امنحني حسن الدعة، ‌و‌ ‌لا‌ تجعل عيشي کدا کدا ‌و‌ ‌لا‌ ترد دعائي علي ردا، فاني ‌لا‌ أجعل لک ضدا ‌و‌ ‌لا‌ أدعو معک ندا» [16] .
و نلحظ، هنا تساوي الفواصل (آخر کلمة في الجملة) في جمل الدعاء، ‌و‌ تماثل موسيقاها. ‌و‌ ‌هو‌ - مع تقطيع جمل الدعاء في مواقف الطلب، ‌و‌ طولها النسبي في غيرها. يودي الغاية ‌من‌ تعميق أثر الدعاء في النفس. ‌و‌ يکاد هذا أن يکون سمة ‌آل‌ البيت في الدعاء، لخصوبة أنفسهم، ‌و‌ غزارة معانيهم، ‌و‌ قدرتهم علي صياغتها صياغة لها خصوصيتها ‌من‌ حرارة الفکر ‌و‌ طواعية اللغة. ‌و‌ هذا الذي يجعل منهم أصحاب أسلوب خاص، يجمع، الي الوضوح ‌من‌ معرفة ‌ما‌ يريدون، حسن التعبير عما يستفزهم ‌من‌ ألوان المعاناة، علي اختلاف ألوانها، ‌و‌ تباعد أطرافها النفسية أحيانا. کأن يقول في (المعونة علي قضاء الدين): «اللهم... ‌و‌ احجبني عن السرف ‌و‌ الازدياد، ‌و‌ قومني بالبذل ‌و‌ الاقتصاد ‌و‌ علمني حسن التقدير، ‌و‌ اقبضني بلطفک عن التبذير، ‌و‌ أجر ‌من‌ أسباب الحلال أرزاقي، ‌و‌ وجه في أبواب البر انفاقي، وازو عني ‌من‌ المال ‌ما‌ يحدث لي مخيلة [17]  أو تأديا الي بغي، أو ‌ما‌ أتعقب منه طغيانا» [18] .
فاذا ذکرنا أن (الصحيفة)، في غرض ‌من‌ أعم أغراضها ‌و‌ أهمها، تتوجه الي تربية الانسان علي خلق القرآن ‌و‌ النبوة، بما يجعلها أيضا کتابا في التربية ‌و‌ التوجيه، ‌من‌ خلال کونها کتابا في التبتل والابتهال، أدرکنا أثر اللغة في بلوغ هذا الغرض، ‌من‌ حيث بلوغ التأثير، ‌و‌ تحسين النفوذ، ‌و‌ تقوية الادراک، ‌و‌ ارهاف الفهم.
و الذي أريد أن أزيده بيانا هنا: أن التعبير، في هذه الأدعية، مقدود علي قد الفکرة أو قد الاحساس، يسعهما بوضوح، علي سعة المضمون ‌و‌ دقته ‌و‌ انفراج أطرافه ‌و‌ تباعدها أحيانا، کأن يقول في الرضا بالقضاء: «اللهم طيب بقضائک نفسي، ‌و‌ وسع بمواقع حکمک صدري، وهب لي الثقة لأقر معها بأن قضاءک لم يجر الا بالخيرة [19]  ‌و‌ اجعل شکري لک علي ‌ما‌ زويت عني أوفر ‌من‌ شکري اياک علي ‌ما‌ خولتني. ‌و‌ اعصمني ‌من‌ أن أظن بذي عدم خساسة، أو أظن بصاحب ثروة فضلا، فان الشريف ‌من‌ شرفته طاعتک، ‌و‌ العزيز ‌من‌ أعزته عبادتک، فصل علي محمد ‌و‌ آله، ‌و‌ متعنا بثروة ‌لا‌ تنفد، ‌و‌ أيدنا بعز ‌لا‌ يفقد، ‌و‌ اسرحنا في ملک الأبد....» [20] . فالجملة في الدعاء، کما نري، تطول نسيبا ‌و‌ تقصر حسب ‌ما‌ تقتضيه الحال، ‌و‌ لکن النفس دائما ‌لا‌ ينقطع فيها ‌و‌ ‌لا‌ يتردد!
و تتضح طواعية هذه الاستجابة اللغوية في مجالات الوصف بما يجعل الموصوف يکبر، ‌و‌ يعمق، ‌و‌ يتلون، ‌و‌ يتحرک، ‌و‌ يستفيض، ‌و‌ يتسع لألوان النفس الداعية ‌و‌ دقائق احساسها بالأشياء ‌و‌ معرفتها يأوصافها في جملة أحوالها: «اللهم اسقنا سقيا تسيل منه الظراب، ‌و‌ تملأ منه الجباب، ‌و‌ تفجر ‌به‌ الأنهار، ‌و‌ تنبت ‌به‌ الأشجار، ‌و‌ ترخص ‌به‌ الأسعار في جميع الأمصار، ‌و‌ تنعش ‌به‌ البهائم ‌و‌ الخلق، ‌و‌ تکمل لنا ‌به‌ طيبات الرزق، ‌و‌ تنبت لنا ‌به‌ الزرع، ‌و‌ تدر ‌به‌ الضرع، ‌و‌ تزيدنا ‌به‌ قوة الي قوتنا» [21] . ‌و‌ مثل هذا يبدو أيضا في معرفته العميقة بصفات الخير ‌و‌ الجمال في النفس، ‌و‌ معرفته بما يکدرها ‌و‌ يشوهها ‌من‌ صفات الشر، بما ينتهي الي معرفة بالنفس الانسانية في أحوالها المختلفة: «اللهم... أغنني ‌و‌ أوسع علي في رزقک، ‌و‌ ‌لا‌ تفتني بالنظر، ‌و‌ أعزني ‌و‌ ‌لا‌ تبتلني بالکبر، ‌و‌ عبدني لک ‌و‌ ‌لا‌ تفسد عبادتي بالعجب. ‌و‌ أجر للناس علي يدي الخير، ‌و‌ ‌لا‌ تمحقه بالمن، وهب لي معالي الأخلاق ‌و‌ اعصمني ‌من‌ الفخر» [22] .
فهذا، ‌و‌ مثله کثير في الدعوات، ‌هو‌ الذي کاد أن يجعل آداب الاسلام کلها مختزنة فيها، ‌و‌ يجعل ‌من‌ (الصحيفة)، کما قلنا، کتابا يجمع رؤوس تعاليم الاسلام، الي جانب کونها معجما في اللغة ‌و‌ أساليبها ‌و‌ طرق بيانها. ‌و‌ ‌من‌ يرجع الي دعائه في يوم عرفه [23] .
يجد أنه استوفي، أو کاد، حاجات کل مسلم ‌من‌ دنياه ‌و‌ آخرته، علي السواء، ‌و‌ يجد اللغة ‌و‌ سعت التعبير عن هذه الحاجات کلها. ‌و‌ في هذا کفاية.


الامر (4)
الي جانب هذا الغني اللغوي الذي وصفناه، نجد القدرة علي التصوير الحسي الذي يجسد الفکرة أو الاحساس ‌و‌ يحرکهما حتي يشخصها في العين، ‌و‌ تمتلي بهما الحواس الأخري. ‌و‌ نکاد نقع علي أمثلة له في سائر صفحات (الصحيفة): «اللهم فارحم وحدتي بين يديک، ‌و‌ وجيب قلبي ‌من‌ خشيتک، ‌و‌ اضطرب أرکاني ‌من‌ هيبتک... ‌و‌ ابسط علي طولک، ‌و‌ جللني بسترک» [24]  «اللهم اني أعوذبک ‌من‌ نار تغلظت بها علي ‌من‌ عصاک... ‌و‌ أعوذبک ‌من‌ عقاربها الفاغرة أفواهها، ‌و‌ حياتها الصالقة [25]  بأنيابها، ‌و‌ شرابها الذي يقطع أمعاء ‌و‌ أفئدة سکانها ‌و‌ ينزع قلوبهم...» [26] .
و تبدو الصورة أحيانا حارة علي نحو تمتلي ‌به‌ النفس خوفا ‌و‌ رهبة. ‌و‌ يکثر ذلک في مواقف التذلل ‌و‌ الاستغفار ‌و‌ الخوف ‌من‌ جبروت الألوهة، علي نحو ‌ما‌ عرضنا لأمثلة کافية منه. ‌و‌ يکاد الانسان يعجب ‌من‌ رجل زينته العبادة حتي کان يلقب بالسجاد ذي الثفنات [27]  ‌و‌ (زين العابدين) ‌و‌ حبب اليه السجود حتي برح جبينه. ‌و‌ أحب الحق حتي سأل الله أن يقود منه المظلوم اذا وقع عليه ظلم منه.
أقول: يعجب أن يجد احساسه بالذنب يبلغ منه هذا المبلغ. ‌و‌ يجده يعدد عيوب نفسه ‌و‌ يجسدها في مثل هذه الصور التي مثلنا لها، کأنه ‌لا‌ يکفيه ‌من‌ حرارة وجدانه الديني، ‌و‌ تخشعه أمام جلال الألوهة ‌و‌ روعة الربوبية، حقائق التقوي التي حققها في نفسه.
و يجدها، مهما سما فيها، قليلة في جنب الله، حتي ليسأل الله أن يخفف ‌من‌ عقاب ‌من‌ يسي ء اليه! «اللهم ‌و‌ أيما عبد نال مني ‌ما‌ حظرت عليه، ‌و‌ انتهک مني ‌ما‌ حجرت عليه، فمضي بضلامتي ميتا، أو حصلت لي قبله حيا، فاغفرله ‌ما‌ ألم ‌به‌ مني، واعف له عما أدبر ‌به‌ عني، ‌و‌ لاتففه علي ‌ما‌ ارتکب في، ‌و‌ ‌لا‌ تکشفه عما اکتسب بي، ‌و‌ اجعل ‌ما‌ سمحت ‌به‌ مت العفو عنهم، ‌و‌ تبرعت ‌به‌ ‌من‌ الصدقة عليهم أزکي صدقات المتصدقين، ‌و‌ أعلي صلات المتقربين، ‌و‌ عوضني ‌من‌ عفوي عنهم عفوک، ‌و‌ ‌من‌ دعائي لهم رحمتک، حتي يسعد کل واحد منا بفضلک...» [28] .


الامر (5)
هذه نظرة سريعة في بعض ظواهر الجانب الفني في أدعية الامام. ‌و‌ الذي انتهينا اليه منها، أن الامام زين العابدين ‌و‌ في في أدعيته، بأدق دقائق العقيدة، ‌و‌ جعل منها کتابا في فهم الدين: ‌ما‌ يأمر ‌به‌ ‌و‌ ‌ما‌ ينهي عنه. ‌و‌ کتابا في أدب الاجتماع ‌و‌ أدب النفس، ‌و‌ کتابا في اللغة يلم بمفرداتها، ‌و‌ يقرب ممن يقرؤها معجما اللغوي، ‌و‌ کثيرا ‌من‌ أسرار بيانها ‌و‌ قدراتها في التعبير ‌و‌ التصوير، ‌و‌ بني ‌من‌ أدعيته التي صاغها محرابا يتعبد فيه الفرد المسلم، ‌و‌ يناجي ربه، ‌و‌ يبتهل اليه. فلا عجب، بعد هذا کله، أن يجعلها بعض المحبين في مرتبة (الزبور).


عبدالکريم الأشتر 


ارجاعات:
[1] الصحيفة السجادية، دعاء رقم / 51 /.
[2] مقدمة الصحيفة السجادية / ابن سعد: 216 / 5.
[3] الصيحفة السجادية: دعاؤه في الاستقالة، دعاء رقم / 16 /.
[4] المرجع السابق نفسه.
[5] طبق السحاب الجو: غشاه ‌و‌ غطاه. ‌و‌ الطبق: السحاب الذي يغطي الجو ‌و‌ يغشيه. المجلل: السحاب الذي يجلل الأرض بالمطر.
[6] ألث المطر: دام أياما ‌لا‌ يقلع.
[7] المطر کله شديده ‌و‌ ضعيفه.
[8] کثير الخير ‌و‌ الخصب.
[9] أنهضت الريح السحاب: ساقته ‌و‌ حملته.
[10] الصحيفة: دعاؤه في الاستسقاء، دعا ء رقم / 19 /
[11] الأمن.
[12] أضبا علي الشي ء اضباء: سکت عليه ‌و‌ کتمه، ‌و‌ ضبأ: استخفي.
[13] الصحيفة: دعاء رقم / 49 / في دفع کيد الأعداء.
[14] الصحيفة: دعاء رقم / 23 / في طلب العافية.
[15] الصحيفة: دعاؤه اذا أحرنه أمر، دعاء رقم / 21 /.
[16] الصحيفة: دعاء رقم / 20 / في مکارم الأخلاق.
[17] يريد الخيلاء: الکبر ‌و‌ العجب.
[18] الصحيفة دعاء رقم / 30 / في قضاء الدين.
[19] الاختيار.
[20] الصحيفة دعاء رقم / 35 / في الرضا بالقضاء.
[21] الصحيفة: دعاء رقم / 19 / في طلب الاستسقاء.
[22] الصحيفة: دعاء رقم / 20 / في مکارم الأخلاق.
[23] الصحيفة: دعا ء رقم / 47 / دعاء يوم عرفة.
[24] الصحيفة: دعاء رقم / 31 / دعاؤه بالتوبة.
[25] الصلق: الصياح ‌و‌ الولولة.
[26] الصحيفة: دعاء رقم / 32 / في صلاة الليل.
[27] الثفنة: رکبة البعير.
[28] الصحيفة: دعاء رقم / 39/ في طلب العفو.

0
0% (نفر 0)
 
نظر شما در مورد این مطلب ؟
 
امتیاز شما به این مطلب ؟
اشتراک گذاری در شبکه های اجتماعی:

آخرین مطالب

دنباله موضوع ابن خضیب و نماز نیکو
انتشار4 جلد جدید از مجموعه سخنرانی های حضرت استاد ...
عارفانه: مجموعه داستانهاي عرفان اسلامي اثراستاد ...
نیازمندى هاى انسان در مساله ى حسنات اخلاقى
ثواب اذان و مقام مؤذّن
اعراض نفس از حق
اربعین خونین در عراق/ بیست شهید و ده ها زخمی
نفس
حکایت طلبه شاهرودى
ملامح من الصفات الفنیة للصحیفة السجادیة

بیشترین بازدید این مجموعه

در قلّه عشق به فضایل
عابس بن شبیب شاکرى
نیازمندى هاى انسان در مساله ى حسنات اخلاقى
بیانیه حضرت استاد حسین انصاریان به مناسبت شهادت ...
منازل و درجات نيت
نفس
ثواب اذان و مقام مؤذّن
سخنراني مهم استاد انصاريان در روز شهادت حضرت ...
ثنا و ستايش الهى قبل از دعا
شروع دعا با صلوات‏

 
نظرات کاربر

پر بازدید ترین مطالب سال
پر بازدید ترین مطالب ماه
پر بازدید ترین مطالب روز



گزارش خطا  

^